من طرف د. شادي عمار 16/3/2008, 19:07ذهب بلال الدندشي إلى مدرسته كعادته في صباح كل يوم، ووصل إليها متأخرًا، ودخلها وهو يرتعد خوفًا من معلمه وتوبيخه الفظّ الساخر. ولكنه وجد التلاميذ نائمين والمعلمين نائمين، فحاول إيقاظهم، فلم يستيقظ أحد. وسئم الجلوس وحده، فتثاءب ونام، ورأى في أثناء نومه أنه نائم في مدرسة تلاميذها نائمون نومًا عميقًا غير مبالين بصيحات معلميهم الغاضبة. وأيقظته أمّه من نومه، وحثته على الإسراع حتّى لا يتأخر عن مدرسته، فهرول قاصدًا مدرسته ليجد معلميها مقتولين وتلاميذها يلعبون مرحين، ولم يلعب معهم لأن أمّه أيقظته من نومه ليذهب إلى مدرسته. فارتدى ثيابه على عجل، وغادر البيت من دون أن يأكل، وهرع إلى مدرسته وجلس في صفه بين التلاميذ متأهبًا لما سيحدث.
ودخل المعلم الصف بوجه عابس وعينين صارمتين، فحدّق إليه التلاميذ الصغار بنظرات ملأى بالكراهية، وتهامسوا فيما بينهم بكلمات مبهمة، فصاح بهم غاضبًا: (اخرسوا).
فصمت التلاميذ فورًا، ووضع المعلم محفظته المهترئة على سطح طاولته، وفتحها، وأخرج منها رزمة من الأوراق لوّح بها قائلاً للتلاميذ: (أتعرفون ما هذه الأوراق? هذه أجوبتكم المكتوبة ردّا عن سؤالي عن المهنة التي ستختارونها حين تصيرون رجالاً).
واقترب المعلم من سلة المهملات، ولوّح بالأوراق ثانية، وقال للتلاميذ: (هذه أجوبة لا تستحق حتى الصفر).
ورمى الأوراق في سلة المهملات بحركة المتخلص من قمامة مقززة، وقال لتلاميذه: (علّمتكم طوال أيام النشيد الوطني الرسمي لترددوه في الحفلة التي ستقام بمناسبة انتهاء العام المدرسي، وسأمتحن اليوم قدرتكم على الحفظ، والويل لمن يخفق).
فتهامس التلاميذ متذمرين، فزعق بهم معلمهم بصوت حانق: (اخرسوا).
فسكت التلاميذ، وقال لهم معلمهم: (سأعدّ من الرقم واحد إلى الرقم ثلاثة، وحين أصل إلى الرقم ثلاثة تبادرون إلى ترديد النشيد بصوت واحد. هيا استعدوا. واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتبادل التلاميذ النظرات الغامضة، وشرعوا في إنشاد مقطع من أغنية غرامية معروفة بأصوات عالية حماسية محافظين على اللحن الأصلي للنشيد الوطني، فصاح بهم معلمهم: (اخرسوا).
فاندفع التلاميذ نحوه كطلق ناري، وضربوه، بمساطرهم وكتبهم ودفاترهم وأقدامهم طالبين إليه أن يخرس. فبوغت المعلم بما حدث، وصاح غاضبًا مستنجدًا، فلم يأتِ أحد من المدرسة لنجدته. وترنح وارتمى على الأرض بعد أن أصيبت عظام ساقيه بضربات موجعة، وحاول أن يقاوم ويهدد ويتوعد ويصبر، ولكن ألمًا طاغيا أجبره على البكاء والتوسل إليهم أن يكفوا عن ضربه، فلم يبالوا بتوسله، ولم يتوقفوا عن ضربه إلاّ عندما أذعن ولم يعد يصدر عنه أي صوت. فأوثقوه بحبال أعدوها سلفًا، وأمروه بترديد النشيد الوطني، فبادر إلى إطاعة أمرهم، وردد النشيد الوطني بصوت متحشرج مرتجف، فسدّوا آذانهم بأصابعهم متأففين. وانفصل بلال الدندشي عن التلاميذ، ووقف قبالتهم مقلدًا وقفة معلمهم، وصاح بهم بلهجة مرحة آمرة: (واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتعالت أصوات التلاميذ تردد النشيد الوطني متآلفة متناسقة، وتوحدت في صوت واحد خرج من نوافذ المدرسة ليتحوّل موجًا.
عالم زكريا تامر...
من حيٍ دمشقي يعبق بالياسمين وتصطفق في فسحات داره أشجار النارنج والمشمش، انساب من بحرة أرض الديار... فتىً جميلاً استعار اسمه من أحد الأنبياء، وكما فوجئ ذاك النبي بالعذراء يأتيها رزقها إلى غرفتها القصيّة دون مساعدةٍ من إنسٍ ولا جان، أتى لزكريا تامر ذاك الرزق الأدبي متمثلاً في كنزٍ فذ من القص القصير نصاً لكنه الطويل الطويل دلالاتٍ وأعماق وأشجان...
ولد عام 1931، واضطره فقر الحال لترك الدراسة، لكن هذه المأساة فجّرت في حنايا أديبنا أجمل وأثرى الينابيع، وأعتقد لو استمرّ في الدراسة الأكاديمية لقضى على هذا الإشعاع بالإهمال...
عايش كما قاسى!! هموم الناس التي اضطرّه إليها خروجه الباكر للحياة، ولنلاحظ معاً أن الأدب لا يحتاج لذكاء باهر، ولا لدراساتٍ مستفيضة... يكفي أن نقرأ مزيداً، و... نكتب ما يمتلئ في ذواتنا.
إذاً ترك الدراسة عام 1944 أي في عمر12 سنة، وهذا ما سيفسّر لاحقاً
اتساع عالم القص للأطفال لديه، إذا ما عرفنا أنه اشتغل رئيس تحرير لمجلات أطفال هامّة(رافع، أسامة) عدا عن إشرافه على أقسام الطفولة في صحف عربية مرموقة...كما نشر 37 كتيّباً مصوّراً للأطفال...
هذا الزخم الطفولي الذي يندفع من قلم صاحبنا لم يمنعه من التفاتة هامّة نحو عالم الكبار...سياسة، اجتماع، أوضاع معاشيّة... وليشكّل في كتاباته منعطفاً هامّاً في القصّة العربيّة المعاصرة التي نأى بها عن الحشو والسرديّة المملّة والفنون البديعيّة المقيدة، ليرتكز على خيالٍ مدهش نابعٍ من واقعٍ ظلامي لكنّه شكّل الوقود المتفجر للصاروخ القصصي التامري!! ليظهر في الفضاء الأدبي العربي نجمةً لامعة، فهو _بالنهاية_ لم ينسَ واقعه وهذا سر عظمة أي إبداعٍ في الوجود... الأصالة
إذاً، كانت أولى مجموعاته القصصية(صهيل الجواد الأبيض) عام 1960 وتعتبر مجموعته(النمور في اليوم العاشر) من أهم ما كتب.
رأس تحرير مجلة الموقف الأدبي السوريّة الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب الذي ساهم بتأسيسه عام 1969 ،كما قام بإدارة تحرير مجلات الدستور اللندنية، الناقد/سوريّة تصدر في لبنان/... ورأس التحرير الأدبي لدار رياض الريّس للطباعة والنشر اللندنية...
ترجمت أعماله إلى معظم اللغات العالمية/فرنسية،إيطالية، إنجليزية، روسية،هنغارية/ وفي الصربية كتابان، وفي الإسبانيّة ثلاثة كتب
أهمّ أعماله...
عدا المهن اليدويّة الشّاقة التي عمل بها في سنيّ طفولته الأولى، فقد أبدعَ مجموعات قصصية رائعة نذكر منها...
1-صهيل الجواد الأبيض/أولاها عام 1960/
2-ربيع في الرماد عام 1963
3-الرعد عام 1970
4-دمشق الحرائق عام 1973
5-لماذا سكت النهر /53 قصة للأطفال/ عام 1973
6-النمور في اليوم العاشر/أهمّها/ عام 1978
7-قالت الوردة للسنونو (18 قصة للأطفال) عام 1978
8-نداء نوح عام 1994
9-سنضحك عام 1998
10-أف/مختارات قصصية/ عام 1998
11-الحصرم عام 2000
12-تكسير الركب/آخر مجموعاته القصصية/ عام 2002
أدعوكم أبناء مدينتي الجميلة للولوج في عالم زكريا تامر المدهش، والتعلّم من مآثره القصصيّة، وسوف يحفل قسمنا بالعديد من قصصه الهامّة، كما أرحب بإسهاماتكم الضروريّة لإكمال نقصٍ أو الإشارة لجانبٍ خفي في حياة أديبنا السوري واعماله....
ودخل المعلم الصف بوجه عابس وعينين صارمتين، فحدّق إليه التلاميذ الصغار بنظرات ملأى بالكراهية، وتهامسوا فيما بينهم بكلمات مبهمة، فصاح بهم غاضبًا: (اخرسوا).
فصمت التلاميذ فورًا، ووضع المعلم محفظته المهترئة على سطح طاولته، وفتحها، وأخرج منها رزمة من الأوراق لوّح بها قائلاً للتلاميذ: (أتعرفون ما هذه الأوراق? هذه أجوبتكم المكتوبة ردّا عن سؤالي عن المهنة التي ستختارونها حين تصيرون رجالاً).
واقترب المعلم من سلة المهملات، ولوّح بالأوراق ثانية، وقال للتلاميذ: (هذه أجوبة لا تستحق حتى الصفر).
ورمى الأوراق في سلة المهملات بحركة المتخلص من قمامة مقززة، وقال لتلاميذه: (علّمتكم طوال أيام النشيد الوطني الرسمي لترددوه في الحفلة التي ستقام بمناسبة انتهاء العام المدرسي، وسأمتحن اليوم قدرتكم على الحفظ، والويل لمن يخفق).
فتهامس التلاميذ متذمرين، فزعق بهم معلمهم بصوت حانق: (اخرسوا).
فسكت التلاميذ، وقال لهم معلمهم: (سأعدّ من الرقم واحد إلى الرقم ثلاثة، وحين أصل إلى الرقم ثلاثة تبادرون إلى ترديد النشيد بصوت واحد. هيا استعدوا. واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتبادل التلاميذ النظرات الغامضة، وشرعوا في إنشاد مقطع من أغنية غرامية معروفة بأصوات عالية حماسية محافظين على اللحن الأصلي للنشيد الوطني، فصاح بهم معلمهم: (اخرسوا).
فاندفع التلاميذ نحوه كطلق ناري، وضربوه، بمساطرهم وكتبهم ودفاترهم وأقدامهم طالبين إليه أن يخرس. فبوغت المعلم بما حدث، وصاح غاضبًا مستنجدًا، فلم يأتِ أحد من المدرسة لنجدته. وترنح وارتمى على الأرض بعد أن أصيبت عظام ساقيه بضربات موجعة، وحاول أن يقاوم ويهدد ويتوعد ويصبر، ولكن ألمًا طاغيا أجبره على البكاء والتوسل إليهم أن يكفوا عن ضربه، فلم يبالوا بتوسله، ولم يتوقفوا عن ضربه إلاّ عندما أذعن ولم يعد يصدر عنه أي صوت. فأوثقوه بحبال أعدوها سلفًا، وأمروه بترديد النشيد الوطني، فبادر إلى إطاعة أمرهم، وردد النشيد الوطني بصوت متحشرج مرتجف، فسدّوا آذانهم بأصابعهم متأففين. وانفصل بلال الدندشي عن التلاميذ، ووقف قبالتهم مقلدًا وقفة معلمهم، وصاح بهم بلهجة مرحة آمرة: (واحد.. اثنان.. ثلاثة).
فتعالت أصوات التلاميذ تردد النشيد الوطني متآلفة متناسقة، وتوحدت في صوت واحد خرج من نوافذ المدرسة ليتحوّل موجًا.
عالم زكريا تامر...
من حيٍ دمشقي يعبق بالياسمين وتصطفق في فسحات داره أشجار النارنج والمشمش، انساب من بحرة أرض الديار... فتىً جميلاً استعار اسمه من أحد الأنبياء، وكما فوجئ ذاك النبي بالعذراء يأتيها رزقها إلى غرفتها القصيّة دون مساعدةٍ من إنسٍ ولا جان، أتى لزكريا تامر ذاك الرزق الأدبي متمثلاً في كنزٍ فذ من القص القصير نصاً لكنه الطويل الطويل دلالاتٍ وأعماق وأشجان...
ولد عام 1931، واضطره فقر الحال لترك الدراسة، لكن هذه المأساة فجّرت في حنايا أديبنا أجمل وأثرى الينابيع، وأعتقد لو استمرّ في الدراسة الأكاديمية لقضى على هذا الإشعاع بالإهمال...
عايش كما قاسى!! هموم الناس التي اضطرّه إليها خروجه الباكر للحياة، ولنلاحظ معاً أن الأدب لا يحتاج لذكاء باهر، ولا لدراساتٍ مستفيضة... يكفي أن نقرأ مزيداً، و... نكتب ما يمتلئ في ذواتنا.
إذاً ترك الدراسة عام 1944 أي في عمر12 سنة، وهذا ما سيفسّر لاحقاً
اتساع عالم القص للأطفال لديه، إذا ما عرفنا أنه اشتغل رئيس تحرير لمجلات أطفال هامّة(رافع، أسامة) عدا عن إشرافه على أقسام الطفولة في صحف عربية مرموقة...كما نشر 37 كتيّباً مصوّراً للأطفال...
هذا الزخم الطفولي الذي يندفع من قلم صاحبنا لم يمنعه من التفاتة هامّة نحو عالم الكبار...سياسة، اجتماع، أوضاع معاشيّة... وليشكّل في كتاباته منعطفاً هامّاً في القصّة العربيّة المعاصرة التي نأى بها عن الحشو والسرديّة المملّة والفنون البديعيّة المقيدة، ليرتكز على خيالٍ مدهش نابعٍ من واقعٍ ظلامي لكنّه شكّل الوقود المتفجر للصاروخ القصصي التامري!! ليظهر في الفضاء الأدبي العربي نجمةً لامعة، فهو _بالنهاية_ لم ينسَ واقعه وهذا سر عظمة أي إبداعٍ في الوجود... الأصالة
إذاً، كانت أولى مجموعاته القصصية(صهيل الجواد الأبيض) عام 1960 وتعتبر مجموعته(النمور في اليوم العاشر) من أهم ما كتب.
رأس تحرير مجلة الموقف الأدبي السوريّة الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب الذي ساهم بتأسيسه عام 1969 ،كما قام بإدارة تحرير مجلات الدستور اللندنية، الناقد/سوريّة تصدر في لبنان/... ورأس التحرير الأدبي لدار رياض الريّس للطباعة والنشر اللندنية...
ترجمت أعماله إلى معظم اللغات العالمية/فرنسية،إيطالية، إنجليزية، روسية،هنغارية/ وفي الصربية كتابان، وفي الإسبانيّة ثلاثة كتب
أهمّ أعماله...
عدا المهن اليدويّة الشّاقة التي عمل بها في سنيّ طفولته الأولى، فقد أبدعَ مجموعات قصصية رائعة نذكر منها...
1-صهيل الجواد الأبيض/أولاها عام 1960/
2-ربيع في الرماد عام 1963
3-الرعد عام 1970
4-دمشق الحرائق عام 1973
5-لماذا سكت النهر /53 قصة للأطفال/ عام 1973
6-النمور في اليوم العاشر/أهمّها/ عام 1978
7-قالت الوردة للسنونو (18 قصة للأطفال) عام 1978
8-نداء نوح عام 1994
9-سنضحك عام 1998
10-أف/مختارات قصصية/ عام 1998
11-الحصرم عام 2000
12-تكسير الركب/آخر مجموعاته القصصية/ عام 2002
أدعوكم أبناء مدينتي الجميلة للولوج في عالم زكريا تامر المدهش، والتعلّم من مآثره القصصيّة، وسوف يحفل قسمنا بالعديد من قصصه الهامّة، كما أرحب بإسهاماتكم الضروريّة لإكمال نقصٍ أو الإشارة لجانبٍ خفي في حياة أديبنا السوري واعماله....
(ما الفارق بين الحيوان و الإنسان؟))
