صلاح الحداد الشريف
"إذا رقيت إلى مكان قد لا أستطيع أن أملأ فراغه، فإن الهبوط منه لن يكون
إلا سقوطا مروعا، يُسمع له دوي شديد"
جون لوك .
وبالإشارة إلى ما استهل به أعلاه، فها نحن – أيها السادة وأيتها السيدات – لا زلنا نسمع دوي سقوط عقلنا المروع منذ مئات السنين وإلى يومنا هذا. لقد سقط أول ما سقط في أول محاولة له على النهوض على يد المعتزلة ؛ أي في القرن الثالث الهجري. ثم وقعت الواقعة الكبرى، التي تم فيها القضاء على العقل قضاء مبرما، حينما كُفر الفيلسوف ابن رشد595هـ، وأحرقت كتبه، وحُرّمت الفلسفة وعُدت ضربا من الهرطقة، تضرب عنق دارسها.
واستعيض بدلا منها بآراء أهل الحشو والقدر والجبر ؛ حتى صرنا بين فكي كماشة ؛ إما كماشة الاحتلال الأجنبي، وإما كماشة الاحتلال الوطني. بيد أن الغريب في الحشوية (نسبة إلى ما تعبأ به الوسادة)، إذ لا فرق عندي البتة بين من يلغي عقله، ويعبأه بالأساطير والخرافات والفتاوى، وبين من يعبأ وسادته بالقش والحشيش والبرسيم. والغريب أنهم يستأنسون أيما استئناس بالاحتلال الوطني، ويضجون أيما ضجيج بالاحتلال الأجنبي. مع أننا لو تبصرنا وسألنا هذا السؤال، الذي لا يريد الحشوية طرحه فضلا عن الإجابة عليه، وهو : من الذي كان سببا في جلب المحتل الأجنبي ؟. الجواب ببساطة متناهية كتناهي الإجابة باثنين على الجمع بين واحد وآخر(1+1=2)، هو : الاحتلال الوطني. ولو سألنا سؤالا آخر أكثر بساطة من الأول، وهو : من الذي صنع المحتل الوطني ؟. لكان الجواب دون أدنى شك هم أهل الحشو أعينهم، الذين لم ينفكوا ولن ينفكوا عن دعمهم والدعاء لهم من جهة، والدعوة بمقاومة العدو الأجنبي ومجابهته من جهة أخرى. لكنني هنا أود أن أسجل اعترافي لكم أيها - السادة والسيدات – على أنه لأمر مضحك وسخيف، لكنّ الأسخف من هذا كله، هو أننا بتنا نصدّق ترهاتهم وسخفهم، بعد أن انطلت علينا حيلهم وألاعيبهم، في غياب العقل وذهابه.
إنها أشبه بحلقة مفرغة ؛ تلك الحلقة التي ما إن ننته فيها من تحرير الأوطان من الاحتلال الأجنبي ؛ حتى نقع تحت براثن الاحتلال الوطني. أو بالأحرى، وإذا أردنا الدقة هي أشبه بعملية البيات الشتوي عند الحيوانات، حيث يرقد الحشويون ملء جفونهم قرب قصور حكامهم وقواعد حارسيهم الكبرى ؛ غاضين الطرف عما يقترفه أولئك السفلة ومن شايعهم، تحت حجج وذرائع لا أول لها ولا آخر، يستنفدون بها ثروات الأوطان وينخرون مقوماتها ؛ حتى تنخفض مستويات العمليات البيولوجية لدى الإنسان العربي إلى أدنى مستوى لها ؛ فتقل عمليات إطلاق الطاقة، ويقل التنفس، وتتباطأ الدورة الدموية، ومن ثم يدخل في نوم عميق، يخسر فيه كل مقوماته البشرية ؛ ليصير من بعد حيوانا كل همه هو الجري وراء إشباع غرائزه من جوع وعطش ونكاح ؛ لتأتي دورة المحتل الأجنبي. وهكذا دواليك.
يتبع...