لا احد من بلاد الشام يسمي دمشق دمشقا, بل هي "الشام"، ولعل السر انها
تختصر بلاد الشام عراقة وحضارة, فهي اقدم مدينة مسكونة على وجه المعمورة,
وللمرأة الشامية خِلالٌ لا تتصف بها امرأة من بنات العرب.
كما انها على دربة فريدة بأسرار الحياة والعيش, فهي طباخة ماهرة ذواقة,
طورت عبر سنيّ الرخاء والسنين العجاف ألوانا وأشكالا من الطعام, وصفات
وخصائص للمطبخ الشامي الذي انتشرت مؤثراته في رقعة واسعة من بلاد الهلال
الخصيب (لبنان, فلسطين, الاردن, العراق) بالاضافة الى تركيا وقبرص
واليونان, فلقد دخل المطبخ الدمشقي قديما, لا قصور بني امية فحسب, بل قصور
بني العباس ايضا, كما رحل لاحقا الى قصور بني عثمان, وأقام اود المطبخ
التركي الذي نظن خطأ انه الاساس.
فثقافة الطعام لا تزدهر الا في الحواضر, بينما تظل واهنة في الارياف
والبوادي, وهو ما كانت عليه تركيا قبل العثمانيين.
طبخت الشامية اللحوم وتفننت في طهيها, كما طبخت الخضار وأبدعت اصنافا
بالزيت تعتبر بصمة في تاريخ الطبخ العالمي, واخترعت من المعجنات انواعا
مذهلة المذاق كالصفيحة الشامية, ومن المحاشي من اللحوم والخضار, وأنواع
الكبب, أما الحلويات الشامية فلم يعرف لها مثيل في شرق أو غرب وهي تعكس
درجة التحضر التي بلغتها الشام, لأنها على قدر عالٍ من التعقيد.
ويجب ان لا ننسى "بيت مؤونة" الشامية الذي يحتوي على اصناف المجففات من
الخضار والبقول والمخللات والمربيات والاجبان والالبان والزيتون, أما
التنكيهات الشامية هي من الاسرار التي تحرص المرأة الشامية عليها تتوارثها
وتورثها.
وتقف الشامية على اعلى السلم بين نساء العالم في النظافة الشخصية ونظافة
البيت. فشطف الارض بالماء يوميا مرتين, وكشط الحيطان والسقف فن وخبرة لا
اظن امرأة اخرى تقدر عليهما.
وقد اعانها في ذلك نهر بردى المتدفق الذي كانت بعض فروعه تمر منها قنوات
في البيوت (وفي طفولتي سكنت بيتا كهذا كنا لا نحتاج الا ان نغرف ونستعمل)
بالاضافة الى نبع الفيجة الذي كان يروي بيوت دمشق, ولوفرة الماء زرعت
الشامية بيديها الخضراوين في "ارض الديار" الداخلية شجر النارنج والياسمين
والفل والكبار والزنبق الابيض الدمشقي الذي كانت تصفه على حواف بركة الماء
الداخلية والتي اسمها لديها "البحرة".
والشامية ربة التخطيط والتدبير المنزلي, وهي ذات حنكة في الادخار
والتوفير, وتعلم ابناءها وبناتها ان لا انفاق في سفه ولا تبذير, مما يسر
للرجل الشامي ان يكون مبدعا خلاقا في تدبير شؤون حياته خارج البيت, فمهما
قست الظروف العامة أو الخاصة فإنه سيجد سبيلا الى الاستمرار ما دام "معلما"
في تصليح الاجهزة والمعدات مهما عتقت وتهالكت اعضاؤها, ففي دمشق فقط نجد
اقدم السيارات في العالم ما تزال تتحرك على الطرقات بقيافة مقبولة.
وقد قادته الحاجة وتلك التربية المنزلية الى اختراع وصناعة ما يلزم حياة
المنزل والمصنع والمكتب والحقل, مما انعكس غنى حضاريا لا مثيل له في
الشعوب العربية, وليس صدفة خلو دفتر سورية من ديون للبنك الدولي!!
وفي عالم الترفيه فالشامية فنانة بارعة... وكلمة "السيران" كلمة شامية
(ربما اصولها سريانية/ ارامية), وتعني "النزهة" أو "السير للتنزه", وقد
وردت الكلمة في الشعر القديم, والشامية سيدة السيران وطقوسه, فهي التي
تتوفر على الاعداد بما لذّ وطاب من الاطعمة والاشربة... ويجب ان يختم الطقس
بشرائح من البطيخ الاحمر وكأس رائق من الشاي المعد فورا. وتنجذب الشاميات
الى غوطة دمشق حيث الخضرة والماء, وإذا عز ذلك فإن اي خضرة خارج البيت هي
موقع ملائم لإقامة حفل الترفيه هذا حتى لو كان على فنجان شاي بالنعناع
فحسب... ولا يعيق الشامية عن قطف ألوان المتعة هذه, حجابها أو نقابها (وهو
ما تسميه المنديل), فلطالما رأيناها ممتطية ظهر دراجة هوائية أو نارية
يقودها زوجها وقد التصقت بظهره في عناق حميم, وإذا لزم الامر فإنها بكامل
ملابسها وحجابها تنزل في الماء تستمتع بالبرودة امام الجميع.