منتدى موقع بانياس والساحل الرئيسي

أهلاً بكم في منتدى موقع بانياس والساحل الرئيسي

بتسجيلكم والدخول الى حساباتكم تصبحون قادرين على المشاركة وارسال المساهمات وتبادل المعلومات والرسائل الخاصة مع باقي الأعضاء ضمن حدود الإحترام..

نرجو منكم الالتزام بالأخلاقيات العامة واحترام الآخرين وارسال المساهمات ذات القيمة المضافة وذكر مصدر أي معلومة جديدة تضيفونها الى المنتدى في مشاركاتكم تحت طائلة العقوبة..

شكراً لإهتمامكم

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى موقع بانياس والساحل الرئيسي

أهلاً بكم في منتدى موقع بانياس والساحل الرئيسي

بتسجيلكم والدخول الى حساباتكم تصبحون قادرين على المشاركة وارسال المساهمات وتبادل المعلومات والرسائل الخاصة مع باقي الأعضاء ضمن حدود الإحترام..

نرجو منكم الالتزام بالأخلاقيات العامة واحترام الآخرين وارسال المساهمات ذات القيمة المضافة وذكر مصدر أي معلومة جديدة تضيفونها الى المنتدى في مشاركاتكم تحت طائلة العقوبة..

شكراً لإهتمامكم

منتدى موقع بانياس والساحل الرئيسي

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الخندق الغميق

    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 2/5/2008, 15:44

    لماذا (الخندق الغميق)؟؟ ولماذا سهيل إدريس*؟؟

    يعتبر سهيل إدريس من روائيينا الموسوعيين، فقد غادر الثوب الديني ليلتحق بالفضاء الأدبي والعلمي في مفارقةٍ لافتة، وقد آثرت أن أبدأ (سلسلة الرواية العربية) بهذا الكاتب اللبناني على الأثر الفذ الذي تركه في القص العربي على وجه الخصوص من خلال إبداعاته وترجماته... وما تركه في الفكر العربي على وجه العموم من خلال (دار الآداب للنشر) التي عنيت بنشر عيون الكتب والمراجع العربية والعالمية المتخصصة.

    أما لماذا رواية /الخندق الغميق/؟؟ فلأنها تروي ببساطة سيرة حياة سهيل إدريس نفسه!! بأسلوب سهيل الآسر، واصفاً بيئتنا ثقافةً وعادات. ولأشير أنها تختلف عن الروايتين الأخريين له في هذه النقطة بالذات إذا علمنا أن روايته(الحي اللاتيني) وصّفت دراسته في فرنسا وما لاحظه من مفارقات. أمّا روايته(أصابعنا التي تحترق) فهي عبارة عن استغراقات فلسفيّة يقع في مطبها كتابنا بعد تقدمهم في العمر!! ولتصبح نظرتهم نحو الأمور أكثر تجريديّة...

    وإليكم رواية... /الخندق الغميق/ ملخصّة

    كنت أرغب بشدة أن يؤاتيني الجهد والصبر لإنجاز تلخيص الرواية كاملاً ونقله إلى الحاسب، ثم إلى القسم الأدبي، لكن ونظراً للتأخير الحاصل لأسباب فاقت قدرتي... فقد ارتأيت أن أضع كل فترة بعض فصول الرواية التي أنجزها، آملاً إنجازها السريع. وأرجو أعزائي القراء الصبر، فلا تتسرعوا بإطلاق الأحكام على الرواية طالما لم يكتمل الجهد بعد في نقلها إلى القسم الأدبي، وطالما لم تقرأوها كاملةً حتى. إذ أدعي، أني بعملي هذا، أشوقكم لقراءة الرواية كاملةً.

    وهكذا أستميحكم العذر إذا لم نضعها في المنتدى، واكتفينا بفرع الرواية في القسم الأدبي حالياً، كي تتكاثر آراءكم وتنضج مع توارد فصول الرواية تباعاً كما تنضج الثمرة الشهيّة... فنقرؤها شهداً حلو المذاق.



    والعذر مجدداً

    المحرر الأدبي
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 2/5/2008, 15:45

    القسم الأول.............................

    الفصل الأول

    يروي الكاتب في دخولٍ مباشر، حالة الخوف من الأب المستبد لدى البطل/ الطفل سامي/ كما سنرى الآن...

    (كان واقفاً خلف الباب المشقوق، يسترق النظر إلى القاعة التي مُدَّ فيها البساط، واكتمل حوله عقد "الجماعة" متربعين على الأرض.

    وكان يتصدّر البساط شيخٌ طويلٌ كبير، يبدو أن الجماعة كانت تنتظر أن يمدَّ يده باللقمةِ الأولى، حتى يأخذوا في التهام الطعام. وقد كان أبداً يخاف ذلك الشيخ ويفر كلما رآه.

    وظلَّ واقفاً خلف الباب المشقوق ينظر إليهم وقد بدأوا يأكلون، وإلى أيدهم، ترتفع من الصحون إلى الأفواه.

    ومضت دقائق، فإذا الصحون كادت تفرغ، وإذا الآكلون ينهضون وهم يتجشأون ويحمدون الله ويدعون لأبيه بأن يظل بساطه ممدوداً، ودعواته دائمة بالأفراح.

    وحين دلف المدعوون إلى القاعة الداخلية، أشار إلى إخوته بيده، فإذا هم يسرعون منقضَّين على البساط، ملتهمين ما تبقى منه.

    ولكن حدث يوماً، فيما بعد، أن نهضت الجماعة، غير تاركةٍ على البساط شيئاً، كأن الجوع كان مستبداً بها ذلك اليوم، أو كأنّ الطعام كان قليلاً. وحين التقى هو وإخوته مع أمهم في المطبخ، لم يجدوا شيئاً يأكلونه، فأخذ وسيم يبكي، وبدت على قسماتهم جميعاً علائم الحزن والغيظ.)

    كما نلاحظ الدخول المباشر في قلب الموروث الديني، عبر وصف حلقات الذكر وغيرها، مثلما يذكر الكاتب هنا...

    (وكان لهم قريبٌ ثري يفاجئ جماعة الذكر بحضوره بين يومٍ وآخر، فيشاركهم تلاوة القرآن والسيرة وإقامة "الذكر"، وإن كان لم يره مرّةً واحدةً يشاركهم طعام الفطور. وقد لاحظَ غير مرّة أن الجماعة يحيطون ذلك القريب بمزيدٍ من العناية والاهتمام، ويصغون إلى حديثه بإجلالٍ واحترام.

    وكان لم يمضِ عليه وقتٌ طويل منذ بدأ يجالس الجماعة، ويتلو بينهم بعض القرآن بالترتيل؛ حين دعاه ذاك القريب إليه، وطلب منه أن يحفظ أربعين حديثاً هي الأحاديث التي جمعها النووي، حتى إذا استظهرها كلّها،أقام له ذلك القريب حفلةً حافلة، كان عليه أن يسردها فيها دون ما خطأ، فإذا نجح في ذلك، كافأه بهديّةٍ ثمينة لم يفصح عنها ذلك اليوم.

    وانصرف إلى الأحاديث الأربعين ينفق وقته كله في حفظها ويتساءل عن اليوم الذي سيلقيها فيه. حتّى إذا كان الأسبوع التالي، أقبل القريب الثري يسأله ثم يحدّد يوماً للحفلة الموعودة.

    ولقد أخذه التهيّب ذلك المساء، حتى إذا دخل القاعة الكبرى في منزل القريب الثري، فرأى ما يزيد عن ثلاثين شخصاً من أفراد العائلة جالسين في صمت، وكأنما كانوا ينتظرون قدومه. ومرّت دقائق أديرت فيها القهوة على الحضور، ثم أومأ له قريبه، فاعتلى منصّةً صغيرة كانت قد وضعت في صدر القاعة، وراح يتلو الأحاديث من غير أن يفهم منها حرفاً. وكان قريبه يتابع الأحاديث على كتيّبٍ في يده، ويهز رأسه بين فترةٍ وأخرى.

    ودوّت القاعة بالتصفيق حين توقّف، وأقبل عليه قريبه يقبله ثم يبسط في يده ثلاثَ أوراق مطويّة، ويقول في صوتٍ مرتفع:

    -سنجري القُرعة الآن بين ثلاث هدايا: محفظة النقود، وساعة اليد وقلم حبر.

    ثم أشار له أن يأخذ الورقة التي يريد، فتردّد لحظات، ثمّ اخذ ورقة، ففتحها قريبه، وإذا به يقرأ عليها "قلم حبر".

    وإن هي إلا لحظة حتى أقبل خادم يحمل في يده رزمة، ففضّها قريبه وتناول إحدى العلب الثلاث ففتحها وأخرج قلم حبرٍ ذا غلاف ذهبي، وقدّمه إليه قائلاً "مبروك" . فأخذه سعيداً حزيناً في وقتٍ واحد. لقد كان يطمع بالساعة. وذكر في تلك اللحظة المصحف الذي أهداه إياه أبوه من قبل.

    الكتاب والقلم.)

    ولنلاحظ هنا إشارة الكاتب إلى حشر الموروث في ذهن الفتى، دون تدبّرٍ منه أو دراية. وهذا ما نلمسه جليّاً في واقعنا الذي لم يتغير حاله منذ سنة تأليف هذه الرواية عام1977، الطبعة الثالثة!!.

    يتبع
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 2/5/2008, 15:47

    الفصل الثاني:

    (الخندق الغميق)، هوحيّ الفتى وأسرته الواسعة. لنقرأ معاً وصف الكاتب الشائق لهذا الحي:

    (وكان هو وأخوه الأكبر فوزي يجمعان صبية الحي صباح كل جمعة، فينظمان لهم برنامجاً حافلاً من الألعاب، ويؤمّنان بذلك لنفسَيهما زعامةً لا شكّ فيها. وكان ذلك البرنامج ينتهي دائماً بسلوك شارع الخندق الغميق الذي لم يكونوا يفهمون لماذا سمي بذلك الاسم، وإن كانوا قد لاحظوا أنه طريقٌ طويلٌ هابط؛ لعلّه شُقّ يوماً من الأيام خندقاً من خنادق الحرب، ثم حُوّل إلى شارع. وكان يهبطُ (الخندق الغميق) مع صبية الحي بزهوٍ وخيلاء، حتى يشرفوا على شارعٍ رئيسي كانوا يعتبرونه نهاية حيهم وطليعةَ حيٍّ جديد. لم يجرؤوا يوماً على اقتحام أسواره؛ فقد كانت تقوم فيه المدينة الكبيرة التي كانت محرّمة عليهم)

    وفي هذا الفصل وصفٌ لإحدى أبشع وسائل التأديب التي شاعت زمناً طويلاً في مجتعاتنا. لنقرأ:

    (_أتذكر كم "فلقاً" أكلنا على يد أبي محمود؟

    وسرعان ما طفرت إلى ذهنه صورة أبيه واقفاً غير مرّةٍ، عند باب الكتّاب يحدّث المعلم "أبو محمود" ويقول له:

    _إن الحصير بحاجة إلى تنفيض!

    ولم يفهما أول مرة ما كان يقصد إليه، ولكنهما فهِما بعد ذلك أن الحصير لم يكن إلا أقدامهم... لقد صفَّ المعلم"أبو محمود" الصبيان في ذلك الصباح على عادته، وطلب منهم أن يقرأوا الدعاء الصباحي. وفيما هم كذلك، غمز بعينيه أكبر صبييَنِ سنّاً، ثم جذب فوزي من بين الصفوف فألقاه أحد الصبية أرضاً، بينما سارع الآخر إلى إدخال قدميه في آلةٍ صغيرةٍ هي قضيبٌ صغير من الخشب المتين، رُبطَ طرفاه بحبل، وأخذ يلف القضيب على الحبل بسرعةٍ كبيرة، وما هي إلا لحظات حتى انحصر قدما فوزي، وكان المعلم "أبو محمود" قد تناول عصا، فراح ينهال بها ضرباً على القدمين المحصورتين المرفوعتين إلى أعلى، ولا ينسى في الوقت نفسه أن يرفع صوته ويشير إلى الصبيان أن يرفعوا كذلك أصواتهم بالدعاء حتى لا يُسمعَ صوت البكاء الذي كان فوزي يصعِّده...)

    ثم يروي الكاتب حرمان الفتى سامي من المصروف إثر مغادرة والده إلى حلب ناسياً أن يعطي أبنائه "الخرجية". وقيام الفتى سامي بسرقة قطعة حلويات من دكان أبي محمود الحانوتي_وهو شيخ الكتّاب نفسه_، وملاحقة العجوز صاحب العكاز له، ثم مرضه لثلاث ليال، وحلمه بالشيخ المعمم(من يضع العمامة) صاحب العكاز يلاحقه. ولدى عودة أبيه يقول الكاتب:

    (ولما عاد أبوه في اليوم التالي، كانت درجة حرارته قد سقطت. ولكنه هرع إلى أبيه يستقبله بلهفة، ويقبل يديه مرات ثم يقول له:"أبي... أرجوك يا أبي... إني أريد أن أصبح شيخاً.)

    يتبع
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 2/5/2008, 15:48

    الفصل الثالث:

    يتناول هذا الفصل دخول الفتى سامي المدرسة الدينية الداخلية/أي ذاك النوع من المدارس التي يقيم الطلاب فيها/، ويصف لوعة الفراق المبللة بالدموع، كما يصف محاولة أمه أن تثنيه عن قراره متذرّعةً بقسوة الحياة الدينية وصغر سنّ الفتى، فما كان من أبيه إلا أن أجاب:

    (-هذا أفضل، ثم لا حيلة لنا بالأمر، لقد قدّر الله عليه، وكُتب على جبينه أن يكون شيخاً، مثل أبيه.

    وصمت لحظةً وأردف: -وهذا لاشك فخرٌ له، أليس كذلك يا سامي!؟.

    والتفتَ إليه يسأله بعينيه، فأجاب من غير تردّدٍ:

    -بلى يا أبي، إنّي أريد أن أصبح شيخاً.)

    القسم الثالث:

    وصفٌ لنظام المدرسة: رنين الجرس الموقظ لصلاة الفجر. وفي ترجيعٍ جميل لذكرى بعيدة أثارتها في ذهن الفتى عبارةٌ سمعها في المدرسة، يقول سهيل إدريس:

    (وارتفع في تلك اللحظة صوتٌ رقيقٌ يهتف في الليل الأصم:

    "سبحان فالق الأصباح" فسرت رعشةٌ في جسمه. لقد ذكَر صوتَ أبيه حين كان يرتفع في الفجر بهذا الهتاف في القرية التي كانوا يصطافون فيها، فيفتح عينيه، مصمّماً على أن يتابع الأذان حتّى نهايته، وأن يقاوم النوم، إلى أن يبلغ أبوه في أذانه "الصلاة خيرٌ من النوم" فيغمض عينيه سعيداً راضياً.)

    وثمّة وصفٌ لتعود الفتى السريع!! على حياة المدرسة، وزيارة أبيه له. حيث ظهر الوالد بمظهر الواهن، أمّا الفتى الذي كان يرتعد قبلاً لمرأى أبيه، فخلال ثلاثة أيّام تمكّنَ من مغالبة خوفه!! وهذا ربّما، نوعٌ من المبالغة.

    في موقفٍ دال، وأثناء زيارة أبيه وحتى وداعه، تحدث الحوارية التالية:

    (ولكن ما كاد أبوه يتجاوز درج المعهد، حتى لحقَ به سريعاً واستوقفه يسأله:

    -إنكّ لم تقل لي متى سيلبسوننا العمّة/أي العمامة/ والجبّة/أي العباءة/؟

    فابتسم أبوه وأجابه:

    -لقد سألت الناظر في لحظة وصولي، فأعلمني أن الخياط السوري الذي سيفصّل الجبب قادمٌ بعد غدٍ إلى المعهد. ولكنّهم يفكّرون في أنكَ أنت...

    ورأى أباه يكف عن إتمام عبارته، فداخله من ذلك خوفٌ غامض، وألحَّ على أبيه أن يقول ما يخفيه، فاستطرد يقول:

    -إنهم يرون أنّك ما زلتَ... صغيراً، ويفكّرون في تأجيل إلباسكَ الزيّ الديني إلى السنة القادمة أو التي تليها...

    وشعرَ أن بودّه أن ينفجر بالبكاء، وإذا وجهه قد احتقن بالدم، وإذا هو فجأةً يتعلّق بيد أبيه ليقول له وهو يجالد نفسه:

    -إذا كان الأمر كذلك... فإنّي لن أبقى في هذا المعهد يوماً واحداً. أريد أن ألبس الجبّة والعُمَّةَ مع رفاقي.

    وعجب هو نفسه من أين أتاه هذا التصميم في العزم، ولكنه رأى أباه يبتسم ثانيةً ويربت على ظهره وهو يقول له:

    -لقد تحدّثت طويلاً مع الناظر في هذا الأمر، ونجحت أخيراً في إقناعه، فاطمئنّ يا سامي!.

    وأقبل من جديد على أبيه يقبّل يده مرّةً ومرّة، ثم أحسّ بثقل الصرّة في يده، فانصرف عنه راكضاً إلى غرفته، وأخذ يأكل مما كان فيها من حلوى وفاكهة، ناسياً أن موعد العشاء كان بعدَ دقائق...

    وحين أراح رأسه على الوسادة تلك الليلة، ابتسم وهو يذكر قول أبيه المأثور: "العمامة تاج العرب"

    يتبع
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 2/5/2008, 15:51

    الفصل الرابع:

    يتحدّث الكاتب هنا عن شعور الفتى أن جميع أقرانه_مثله_ لم يكن يفهمون شيئاً من الدروس!، ويترقّبون في الآن ذاته مجيء الخياط السوري ليلبسهم الجُبَب، بعد أن أخذ قياساتها عليهم.

    ثمّ وصفٌ لمجيء الخياط السوري وارتدائهم الجبب والعمامات...

    يشير الكاتب في المشهد التالي إلى صعوبة تقبل الفتى الصغير سامي في المجتمع الديني. الذي يكترث للكبار فقط:

    (وفجأةً سمع رقمه، فتقدّم بخطى ثقيلة نحو الخياط الذي وجد له جبّته بسرعة، فألبسه إيّاها ولكنّه لم يقل له كما قال للذين سبقوه "مبروك يا مولانا". بل قال له:"اسمُ الله عليك!"، فابتسم بسذاجة وتقدّم من مدرّس التفسير وبسط له طربوشه، فأخذَ يلفّ عليه العمامة.ولكنه لم يكد يفرغ من لفّها، حتّى انفرطت بين يديه، فتأفّف قليلاً، وعاد إلى إدارتها على الطربوش من جديد. غير أنّها ما لبثت أن انفرطت مرّة أخرى لسببٍ لم يفهمْه هو ولم يفهمه المدرّس الذي التفتَ إليه وقال بهدوء:

    -أنتَ منحوس... ستكون شيخاً منحوساً!

    فلم يدرك كيف يكون الشيخ المنحوس، ولم يهتم كثيراً بهذا القول، فقد كان نافد الصّبر، يود أن يفرغ المدرّس من لفّ العمامة.

    وشعر بها أخيراً تستقر على رأسه، فأحسّ بثقلها. ولكنّه التفت إلى رفاقه يستطلع تأثير ذلك عليهم، فوجد خمسة أو ستة منهم قد وضعوا أيديهم على أفواههم يخفون بها بسمةً أو ضحكة. وأخذ يسائل نفسه:"لماذا عساهم ينظرون إليه هذه النظرة المستفهمة؟ ولماذا يريدون أن يضحكوا؟" وفجأةً انفجر احدهم_وكان لم يلبس بعدُ جبته وعُمّته_ بضحكةٍ ثاقبة، وهو يمدّ سبابته مشيراً إليه، قائلاً:"انظروا... انظروا الشيخ سامي!" وكاد الجميع ينفجرون مثله، لولا أن تقدّم منه الناظر بسرعة، وصفعه على خدّه صفعةً مُرنَّة وهو يقول له:"إخرس يا قليل الأدب! احترم الجبّةَ والعُمّة!"

    وفي مشهدٍ آخر يدل على التحوّل الطارئ في حياة الفتى، نقرأ عندما أتى إلى المنزل أوّل مرّة...

    (وكانت أمه هي التي فتحت الباب، فرآها تُباغت فتتراجع وهي تتقيه بيدها، فأدرك أنها ظنّته غريباً بهذا المظهر الجديد، ثم ما لبثت أن ارتدّت إلى الباب وقد اتّسعت حدقتاها وصاحت:

    -أنت... سامي... حبيبي... الشيخ سامي...

    ودخل البيت، فأقبلت عليه تضمّه، ثم تتراجع وتنظر إليه من مسافةٍ قريبة:

    -لقد أصبحت شيخاً يا إذن سامي؟... لقد انتهى الأمر إذن.

    فلم يجب بكلمة. ورآها تحدّق في وجهه ثم تقول بحرارة واهتمام:

    -ولكن ما هذه الدّموع على عينيك ووجنتيك؟ أنت تبكي؟ لماذا يا حبيبي؟ أتبكي لأنّك أصبحتَ شيخاً؟ لماذا يا...

    وقطع عبارتها صوتٌ عريض انبعث من خلفها يقول:

    -ما هذا الكلام التافه؟ وما هذه الأسئلة السخيفة؟ لماذا لا تفتحين عينيك جيداً لتري أن هذا من ماء المطر، وليس من الدّموع؟ صدق النبي الكريم: النساء ناقصاتُ عقلٍ ودين...

    ثم التفتَ أبوه إليه، وعلى شفتيه ابتسامة عريضة وأخذ يرحب به:

    -أهلاً بالشيخ سامي... أهلاً بالابن البار...

    وراح يشدّه إليه، ثم يلامس جبّته برقّةٍ وتؤدّة، وتناولَ عمامته ينفض عنها ما علق بها من ماء، وما لبث أن أخذه من يده وقاده إلى غرفته وهو يقول له:

    -إمسحِ الماء عن وجهكَ يا بني... رضي الله عنكَ وأرضاك.

    وحينَ وقف أمام المرآة، والمنشفة في يده، رأى باب الغرفة وقد سدّته وجوه إخوته وأمه، وتطلّع مرةً أخرى في المرآة، ورفع المنشفة إلى وجهه، فلم يدر هو نفسه: هل كان يمسح قطرات من المطر سقطت على وجنتيه، أم دموعاً سالت من عينيه؟).

    يتبع
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 2/5/2008, 15:53

    الفصل الخامس:

    مرةً أخرى... حديثٌ عن حياة المعهد، أو المدرسة!! وهنا يمزج الكاتب بين الاثنين.

    في هذا الفصل يقع هذا المشهد الطريف، فعندما يطلب منهم الشيخ، رئيس المعهد، أن يحلقوا رؤوسهم ويطيلوا لحاهم. يجري عليهم تفتيشاً ليتأكّد من انصياعهم لأوامره...

    (وتحرك الرئيس، وأخذ يقف لحظة قصيرة أمام كل طالب، فيسأله لماذا لم يحلق شعره ويرخي ذقنه، ولا ينتظر جواباً منه، بل يرفع عصاه ويضربه بها على رأسه ضربةً موجعة وينتقل على سواه. حتى وصل دوره هو، فوقف الرئيس عنده وسأله:"لماذا لم تحلق شعرك؟" فلم يجب، فسقطت العصا على رأسه. ولكنّ الرئيس لم ينتقل على زميله، بل ظلّ واقفاً أمامه وسأله:"ولماذا لم ترخِ ذقنك؟" ولم يدرِ هو نفسه كيف تأتّى له أن يجيب فوراً:"إنها لم تطلع بعد!" فإذا بعينيه تجحظان، ويرفع عصاه فيضربه على رأسه ضربةً شديدة أوجعته فتأوّه، ثم قال له:"إنك تجيب أيضا أيها الوقح؟ اخرس يا قليل الأدب!" فيغضي ببصره إلى الأرض ولا ينبس بكلمة.)

    ويتحدث الكاتب عن خجل الفتى من الحي وأقرانه، فهاهو يقول:

    (لقد انتصب بينهم وبينه حاجزٌ صفيق. لقد أصبح ينتمي إلى عالمٍ غير عالمهم، عالم الأحداث العابث اللاهي...

    وقد حدث يوماً ما كان يخشاه، فقد برز أحدهم فجأة عند باب كان يوشك أن يحاذيه، فصرف عنه بصره أول الأمر، كأنما يود ألا يراه، ثم التفت إليه وفي نيته أن يبتسم له. وقد رأى على وجه رفيقه القديم لهفة من كان يود محادثته، لكنه سرعان ما أدار عينيه عنه حين تذكّر الجبّة والعُمّة، فغاضت البسمة على شفتيه، ومضى في طريقه.

    هو ذا صديقٌ يخسره. سيخسر كل أصدقاء الحي عما قليل. سيخسر الخندق الغميق كله. سيعيش بعد الآن وحيداً.)

    ثم يتحدّث الكاتب عن غربة الفتى في بيته، واستئناسه فقط بأخته هدى... كما يتحدث عن قيام صديقه الذي تجاهله وثلةً من رفاقه بالهتاف له وملاحقته بقولهم: "شيخ صغير...شيخ صغير" وعدم اتخاذ الشيخ الصغير! أي إجراء لكونه لا يليق ذلك بشيخٍ رصين. ثم دفاع أخيه فوزي عنه، وضربه للصبية الساخرين.

    وفي مشهدٍ طريف آخر يُختتم فيه القسم الخامس، يحدث الآتي:

    (ولكنه كان يوشك أن ينعطف إلى زقاق بيتهم، إذ سمع صوتاً نسوياً يناديه، فرفع نظره إلى مصدره، فإذا بامرأةٍ على شرفةٍ تهتف:

    -يا شيخ... يا شيخ...

    وعاد يغض نظره، فإنه لا يليق بشيخٍ أن ينظر إلى النساء. ألم يروِ لهم مدرس الحديث قول النبي:"النظرة الأولى لك، والنظرة الثانية عليك"؟

    أولم يذكر لهم مدرس الأدب قول عنترة:

    وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي

    حتى يواري جارتي مأواها

    ووقف مطرقاً إلى الأرض برأسه، يتساءل ما عساها تريد منه هذه المرأة؟ لعلّها تودّ أن تسأله سؤالاً دينياً، فليس في لهجتها ما ينمّ عن أنها تستخف به، فهي لم تقل:"يا شيخ صغير.."، وهو قد رأى في نظرتها لهفةً ورصانة.. ومع ذلك، فهل يليق بها هي أن تطرح عليه سؤالاً دينياً من على شرفة؟ وهل أصبح هو جديراً بأن يجيب على قضايا الشرع وأحكامه؟ أما كان الأفضل أن يؤجّل ارتداء العمة ريثما ينهي دراسته الدينية، أو يقطع فيها شوطاً طيباً؟

    وارتفع صوت امرأة الشرفة ثانيةً يقطع عليه تفكيره وتساؤله ليقول:

    -يا شيخ... يا شيخ... انتظر قليلاً حتى أنادي أختي لتأتي فتتفرّج عليك...)

    يتبع
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 2/5/2008, 15:53

    الفصل السادس:

    اعتكافه في المنزل، خوفاً من نظرات الأقران. يومي الخميس والجمعة عندما يؤوب من المعهد... لكن في إشارة هامة يقول الكاتب:

    (وانقضت بضعة أسابيع لازم فيها المعهد والبيت كليهما، وشعر أن دائرة محيطه تضيق حتى لا تتعدى أربعة جدران غرفته، وأن مرمى بصره يتقلص حتى يتجمع في صفحة كتابه. وأحسّ أنّه يميل ميلاً خاصّاً إلى المجلات الأدبية ويجد لذةً في مطالعتها. وذات ساعة، راودته رغبةٌ ملحة في أن يكتب، وكانت فكرة أقصوصة وهمية تجول في ذهنه منذ حين، فأنشأ يخط بعض سطورها وهو يحس نشوةً غريبة لم يكن له بها سابق عهد. وحين كتب صفحتين وتوقّف ليستريح، أحس بلهبٍ يلفح وجهه. وسرعان ما أيقن بأن الكتاب والقلم سيكونان وحدهما في عالمه المغلق، النافذتين المفتوحتين على الدنيا.)

    ويتحدّث الكاتب عن ولع الفتى ورفيقه بالقراءة، وفي مشهدٍ معبر، يقول الكاتب:

    (وأخذ تعلقه بالكتاب الذي يختاره هو نفسه يشتد ويعمق بقدر ما بدأ يمل الكتاب الذي كانوا يختارونه له للدرس. فقد كان هذا كتاباً أصفر غالب الأحيان، وكان مؤلفه من القدماء من الذين مضت على وفاتهم قرون، وكان يشعر أن هذا الكتاب نفسه قد مات مع صاحبه، وعبثاً ما يحاول أساتذة المعهد أن يبعثوه في نفوس الطلاب. لقد كانوا يدرسون الفقه في كتابٍ كبير لا يترك شيئاً من شؤون الإنسان، صغيرها وكبيرها إلا أورده، حتى أصبحوا يعتقدون بأن هذا الكتاب يغني عن أي كتابٍ آخر... ومع ذلك، فكثيراً ما كانت تغيب عنهم الحكمة من بعض أحكام الدين، فإذا توجهوا في ذلك على مدرس الفقه، أدلى لهم بما لا يقنعهم غالباً، أو اكتفى بأن يقول:"ولا تسألوا عن أشياء إن تبدُ لكم تسؤكم". بل كثيراً ما يجيب:"بني، هكذا انزل الشارع!" فيعلمون أنه لا يحق لهم بعدُ أن يسألوا أو يمعنوا في الاستفهام، ويكتفون بالحفظ على مضض.)

    ثم يفصل الكاتب في أنواع الدروس التي كان يتلقّاها الفتى في المعهد. وينتهي القسم بتأثر الفتى بأستاذ مادة الأدب في عبارةٍ جميلة...

    (أمّا هو، فقد كانت دروس هذا المدرس الأديب، هي التي كهربت روحه بالموهبة الأدبية، ورسمت له طريق مستقبله)

    يتبع
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 2/5/2008, 15:55

    الفصل السابع:

    هذا القسم سأورده كله! لما فيه من دلالةٍ وعبقريّة وصف، أبدعها سهيل إدريس في رسمه للحالة الإنسانية للفتى، وهو ينتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة. وحاجة الإنسان للإنعتاق من القيود ولو قليلاً، وتذوق بعض الملذّات...

    (حين أيقظه الناظر فجر ذلك اليوم، لم يطلب منه، على عادته، أن يمضي فيتوضّأ تمهيداً لأداء أذان الفجر، بل استوقفه لحظة، والصمت يسود بناية المعهد كلها، ثم سأله بعد تردّد:

    -ابني... ألم تبلغ بعد؟

    ففوجئ بالسؤال، ولم يفهمه بادئ ذي بدء، ثم تذكّر بعض دروس الفقه الأولى التي تلقنها في المعهد، وكان الناظر نفسه مدرس الفقه، فأجاب وقد أغضى ببصره:

    -كلا... يا شيخي... بعد...

    وشعر بالخجل والحرج، فهمَّ بالاتجاه إلى المغاسل، ولكن الناظر استوقفه من جديد:

    -لا تنس أن تخبرني بذلك.. فلا بدّ يومذاك من الطهارة.. يجب أن تُسقِط الغسل..

    وبعد زهاء أسبوعين، قال للناظر حين أيقظه، يلتهب وجهه بحمرة الخجل:

    -شيخي.. يجب أن أغتسل...

    فرمقه الناظر لحظة، ثم صرف عنه نظره. وقال أنه ذاهب ليشعل له نار الحمّام.

    وصباح ذلك اليوم، هبط إلى غرفة المدرّس وهو يحسّ شيئاً جديداً في روحه، يستشعر منه الحياء والجرأة في وقتٍ واحد. على أن كل ما أدركه يومذاك، هو أنّه قد خلّف/أي ترك/ عهد الطفولة والحداثة...

    غير انه شعر بفضوله يزداد، وأنه يتفتّح حسّاً وسمعاً ونظراً. فلقد خطر له ذات ليلة، وكان القمر بدراً شديد الضوء أن يصعد إلى سطح بناية المعهد. وقد ألفى باب مغلقاً، ولكن عالجه قليلاً فانفتح. وفوجئ ببعض زملائه واقفين عند الحاجز، وحين رأوا الباب يفتح، ساد بينهم الاضطراب فحاولوا أن يتفرقوا، وقذف اثنان منهم بشيء كان في يدهما، ولكنهم إذ عرفوه، عاودهم الاطمئنان، وقال أحدهم:

    -لقد أخفتنا... حسبناك الناظر!

    ثم سحب يده من خلف ظهره. وعاد إلى تدخين لفافته، بينما سارع أحد اللذَين قذفا اللفافة إلى تدخين سواها، وقدّم له واحدة، فرفضها على الفور، على أنه ما لبث ان طلبها وأنشأ ينفث من دخانها، فلا يحس له بلذة، ولكنه يظل مع ذلك سعيداً راضياً أن هذا شيء جديد يقدم عليه. والتفت لحظة، فرأى أنظار زملائه معلقةً بنافذةٍ مضيئة في بيتِ يجاور المعهد على انخفاض.. وما لبثَ أن رأى طيف فتاةٍ يلم بالنافذة، وعاد الطيف بعد دقائق يقف خلف الشباك، فإذا هي فتاةٌ شقراء الشعر ناضرة الجمال، ترتدي ثوب نومٍ أزرق، وترفع بصرها وتنظر إلى القمر، وترفّ على وجهها ظلال الغبطة والرضا.. وحين رفعت ذراعها فأسدلت الستار على النافذة، أدرك أنها لا بدّ قد رأتهم يراقبونها، فارتدّ عن الحاجز يشعر بالخجل، ورأى رفاقه يتراجعون وهم يضحكون.

    وقادته قدماه في الليلة التالية على السطح، فطلب لفافة أخرى دخّنها فشعر لها بلذّة لم يعرفها بالأمس، ونظر إلى النافذة يترقّب الطيف مع رفاقه، حتى إذا مر، لم يتمالك أن صرخ:

    -هذه هي... هذه هي...

    فاندفع أحد رفاقه يكمّ فمه بيده وهو يقول:

    -هل أنت مجنون؟.. إخرس!

    واستبدّ به قلقٌ غريب تلك الليلة، فظلّت عيناه مفتوحتين ردحاً طويلاً. وكان يوشك أن يغمضهما حين رأى في الظلام شبح رفيقٍ له يدخل غرفتهم، فيقترب من سرير رفيقٍ آخر، ويبدآن يتهامسان.. ولم يلبث طويلاً حتى سمع هسهسة قبلاتٍ وتنهدات...

    ولم يستطع النوم تلك الليلة، وظلّ يتقلّب في فراشه حتى انبعث صوت الجرس، يتبعه صوت الناظر الجهوري:

    -الصلاة... الصلاة..

    فأحسّ بأنه قد أُنقذ.

    وبعد ظهر اليوم التالي، قرأ على لوحة الإذاعة أمراً بمنع الطلاب من الصعود إلى السطح، فخفق قلبه خوفاً وخشية، ودخل المكتبة فقضى فيها ساعات طويلة حتى حان موعد الطعام وصلاة العشاء، فأحس برغبةٍ شديدة إلى النوم، وأوى إلى فراشه باكراً.

    ولم تمضِ أيّام حتى أتاه صديقه "رفيق" يهمس في أذنه أنه وبعض الزملاء يفكرون في الذهاب إلى السينما في تلك الليلة، واقترح عليه أن يرافقهم، فداخله من ذلك خوف ورهبة. إن أباه كان يمنعه دائماً من ارتياد السينما، وهو لم يُسمح له إلا مرّة واحدة، في يوم عيد، بحضور فيلم قصير عن الحج مع أمه وإخوته. ولم يجرؤ قط على أن يصحب أخاه فوزي الذي كان يذهب بالخفية مرة أو مرتين في الشهر على السينما...

    أما وقد أصبح الآن شيخاً، فالمشكلة أدهى وأمر. على انه سأل صديقه مع ذلك، بدافع الفضول:

    -ولكن، كيف نذهب إلى السينما؟ وماذا نفعل بالجبة والعمة؟

    فهوّن عليه رفيق المر، وقال أنه من اليسير أن يتدبروا الوضع، ثم أبلغه أن كلاً من الرفاق سيستأذن الناظر في التغيب وان عليه أن يتدبّر أمره.

    واندفع في حماسِ إلى الناظر، على خوفه وتهيّبه، فزعم أنه مشتاق إلى أمه وإخوته وانه يود أن يقضي الليلة معهم ويعود باكراً إذا أصبح.

    وقبل أن ينصرف على المنزل، تواعد مع رفاقه على الالتقاء عند منعطف شارعٍ مظلم، غير بعيد عن دار السينما.

    وحين بلغ البيت استغرب ذووه مجيئه، فادعى أمام أبيه بأنه سيجتمع مع زملائه في دار أحد الرفاق ليتذاكروا في السهرة ويحفظوا القرآن، فاسترضى الله عليه وأوصاه بألا يتأخّر في العودة. وانتهز فرصة اجتماع ذويه في غرفةٍ داخلية، فقصد غرفة الاستقبال واخذ جبّته فلفّ بها عمّته، وأدخلها برفق تحت إحدى الأرائك، حتى إذا تيقّن من أنهما غير ظاهرتين للعيان،خرج على مهل وفتح الباب الخارجي، ومضى مسرعاً، وهو يشعر بأنه أصبح خفيفاً رشيقاً للمرّة الأولى في حياته منذ بضعة أشهر.

    وكان صديقه رفيق أول من رآه في المكان الذي تواعدوا للقاء عنده. وعجب أن يراه حاملاً في ذراعه سلّةً متوسطة الحجم، وغذ سأله عما فيها، أزاح رفيق ورقة كانت تغطي وجه السلّة، فظهرت العمة وتحتها الجبة..

    وإن هي غلا دقائق حتى أقبل الرفاق الثلاثة اللذان كانا ينتظرانهم، فاستغربا أنهم لا يزالون يحتفظون بزيّهم الديني، ولكن ما لبث اثنان منهم أن دخلا دكاناً قريباً ثم خرجا منه بلا جبة ولا عمة. وأما الثالث فقد انتظر حتى وصل رفيقاه، فاختبأ وراءهما في الظلام ثم نزع عمته عن رأسه فحلّ المنديل عن الطربوش، فوضعه في جيبه ثم عاد يعتمر الطربوش بعد أن خلع جبته وطواها في صحيفةٍ كانت معه، وأخرج من سترته نظارتين فوضعهما على عينيه ثم قادهم إلى السينما.

    وخرجوا من السينما في ساعةٍ متأخرة من الليل، واستحثّ هو صديقه رفيق للعودة، ولكنهما فوجئا بأن رفاقهما الثلاثة الآخرين ظلوا لحظة واقفين يتشاورون فيما بينهم، ثم يلتفت أحدهم فيدعوهما على مرافقتهم إلى مكانٍ قريب لم يذكر ما هو، ولكن رفيق يسرع في الرفض...

    أما هو فلم يفهم على أين دعاهما زميلهما، ولم يفهم لماذا رفض رفيق، ولم يحاول أن يسأله في ذلك حين استقلا الترام عائدين إلى منزلهما.

    وطرق باب بيتهم بيدٍ ترتجف. وقد كان يدعو الله ألا يوقظ أباه، بل أمه، لفتح الباب. فقد كانت معتادة أن تفتح الباب لأخيه، إذا ما تأخّر ليلاً، من غير أن تضيء النور، واستجاب الله دعاءه، فكانت أمه التي فتحت الباب، ثم انفتلت عائدة إلى سريرهما كعادتها. ولكنّه ما كاد يقفل الباب، حتى انبعث النور في المدخل، فإذا بأبيه واقفٌ ينظر إلى الساعة فيجدها قد تجاوزت الثانية عشرة، وإذا به يلتفت إليه قائلاً:

    -تأخّرت يا سامي... ألا تزالون حتى الآن تتذاكرون وتدرسون؟

    ولم يدر بما يجيب، وكان يوشك أن يفتح فمه ليقول ما لا يدريه حين رأى أباه يقترب منه فجأة وقد اتسعت عيناه وبانت الدهشة على قسماته، ثم يقول له:

    -ولكن أين الجبة والعمة؟

    فأصيب بالبكم، وحاول عبثاً أن ينطق بكلمة، أن يقول شيئاً حتى لا يظلّ صامتاً.. ثم اتجه إلى قاعة الاستقبال فأضاء مصباحها، ولما انحنى إزاء الأريكة أحسّ بقدمي أبيه خلفه.. وحين سحب الجبة والعمة، لم ينظر إلى أبيه، بل اخذ ينفض الغبار الذي أدركه..

    وكان يعلّق عمامته على المشجب، حين سمع صوت أبيه يقول في غيظٍ مكبوت كأنما لا يريد أن يوقظ أحداً:

    -لعنك الله وغضب عليك! يا خيبة أملي فيك ويا ضيعة رجائي!..

    ثم أقبل عليه يهزه من كتفيه ويسائله:

    -أين كنت؟ كنت تتذاكر مع رفاقك وتحفظ القرآن؟ إن القرآن براءٌ منك! كنت ولا شك في مكانٍ مشبوه... كنت في السينما، أليس كذلك؟

    ورفع رأسه إلى أبيه وهزّه بالإيجاب، فإذا أبوه يدفعه بيده دفعة قويّة وهو يقول له:

    -إذهب الآن ونم... وسوف يكون حسابك عسيراً! بئس الابن أنت!

    وكان يرتجف من الهلع حين دخل غرفته، فلم يضيء النور حتى لا يوقظ أخاه فوزي.

    وإذ أوى إلى فراشه، شعر بالذل والاحتقار لنفسه: فهو قد كذب ودخل مكاناً مشبوهاً، وأغضب أباه، وأهان جبته وعمته...

    وأوشكت دمعة أن تطفر من عينيه من شعوره بتلك الغصّة الشديدة في حلقه، ولكنه تذكّر فجأة...

    تذكّر عيني تلك الممثّلة الزرقاوين، وشفتيها الريانتين ونهديها المسكِرَين... ثم رآها تقبل على الممثل فتضمّه إلى صدرها ضمةً يلتصق فيها الجسدان، وتلتحم الشفاه في قبلةٍ محمومةٍ عاصفة.

    وتجمّع على نفسه في سريره، واستسلم للأحلام...
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 22/5/2008, 00:26

    الفصل الثامن:
    يتحدث عن الحالة النفسية الجديدة التي اكتنفت الفتى بعد مغامرته الأولى، كما يروي استدعاء الناظر له _وهذا أقل رتبةً من رئيس المعهد_، وإجباره على الاعتراف بما فعله ورفاقه، وابتهال سامي الفتى للناظر كي لا يقول لرفاقه أنه هو من وشى بهم! ثم دعوة الناظر له ولرفاقه الأربعة قبل صلاة العصر، منذراً إياهم بالطرد إذا ذهبوا إلى السينما مجدّداً،عدا عن أنه سيرفعها إلى رئيس المعهد عندئذٍ.

    ثم يروي الكاتب قصة صديقه عزيز، ذاك الشيخ الشاب الذي أوشك على التخرج من المعهد، وترجم لمجلةٍ مصرية قصةً فرنسية. فيصف سعة ثقافته ورهافة ذوقه، وتحلقه ورفاقه حول عزيز يستمعون حديثه الجميل في الأدب والفن.

    وفي مشهدٍ طريف يروي الكاتب الآتي:

    (وكان عزيز يتخذ من رفيقٍ لهم شيخ كبير الجثة سميناً يدعى "كزكز" هدف سهامه، يناوشه ويتندّر عليه في غير ما أذى. وقد حدث أن عزيز كان يؤم الطلاب في صلاة المغرب ذات مساء، ويبدو أن الشيخ كزكز كان قد تخلف في تلك الصلاة فلم يدركها إلا في الركعة الثانية. وقد شعر المصلون بوطأة جسمه ووقع خطاه حين دخل المسجد فارتجّت له جدرانه! ويبدو أن "عزيز" كان أشدهم شعوراً بمجيء "الشيخ كزكز" فإذا هو ينتهي من قراءة الفاتحة بسرعة، ثم يختار للقراءة سورة تناسب المقام، فيتلو بصوتٍ مرتفع: "إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها..." فلا يتمالك أحد الطلاب نفسه من الانفجار بالضحك، وسرعان ما يتبعه الجميع فتفسد الصلاة كلها... وعجبوا حين التفتوا أن يروا الشيخ كزكز مستغرقاً هو أيضا في الضحك، وقد احمرّ وجهه ودمعت عيناه، فبدا أكثر سمنةً وضخامة!!)

    ويروي الكاتب مدى تأثير عزيز هذا على الفتى، وتوثق أواصر الصداقة بينهما، واجتماعهما على الأدب والترجمة. كما يتحدث عن حالة "عبد الكريم" الفتى الذي نقل إلى مشفى الأمراض العقلية، ليخرج منها، ويتزوج، ويعود إلى المعهد، ويوزّع الملبّس على رفاقه حلوان العرس، ذاكراً خبو ذاك البريق المخيف سابقاً في عينيه بعد زواجه.

    ثم يتوفى عزيز، ويجزع له سامي وكل طلاب المعهد لوعةً وأسى، كما يبعث سامي إلى المجلة المصرية _التي توسّط له عزيز لكي ينشر فيها_ مقالاً في رثاء عزيز، فتضعه المجلة على صفحاتها.

    ويُختتم الفصل الثامن بقوله:

    (وكان قد ابتاع في هذه الأثناء نسخة أخرى من رواية (مولن الكبير) فقرأها بشغفٍ وأسى، وبدأ في ترجمتها بعد أن كتب على الصفحة الأولى من دفتره:

    "يا صديقي الحبيب عزيز: متى تراك تعود من رحلتك الكبرى كما عاد (مولن الكبير)؟".


    عدل سابقا من قبل د. شادي عمار في 17/8/2008, 13:30 عدل 1 مرات
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق الغميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 14/7/2008, 20:23

    الفصل التاسع:
    يحكي عن انتهاء العام الدراسي، وتفوقه في الامتحانات، وتقبل تهانئ أساتذته، سوى رئيس المعهد الذي لم يوجه له كلمة واحدة!! وتساؤله عن سبب فقدان المودّة.

    عدا عن فرحه بالعطلة الصيفيّة، التي توفّر له الوقت في المطالعة وترجمة القصص الفرنسيّة...

    أذكر هنا الصورة الأدبيّة المعبّرة عن المصيف الذي اختاره أهل الفتى سامي هذه السنة، فيقول سهيل إدريس:

    (وحين بلغوا المصيف الجديد، وقف على شرفةِ البيت الذي استأجره، فإذا سهل البقاع ينتشر أمام ناظريه بساطاً في مئة لونٍ ولون تشربها العين فلا ترتوي. واستنشق نسمةً رطبةً مرّت، فاخضلّت روحه بنداوةٍ منعشة، بعثت في نفسه حنيناً إلى الانطلاق في حياةٍ لا تحدّها قيود الزمان والمكان).

    ثم يتحدّث عن الحبّ الأول لابنة أصحاب البيت الذي استأجروه: جمال الفتاة، وشجاعتها في مبادرته التحيّة، وإبداء الإعجاب بأذانه. يقول سهيل إدريس في وصفها:

    (ثمّ تشجّع ونظر إليها نظرةً أطول، فأُخِذَ بجمال وجهها المستدير الناصع، المشرّب الوجنتين بحُمرةٍ طبيعيّةٍ رقيقة. وكان يوشك أن يقول كلمةً يشكرها بها حين غابت فجأةً عن الشرفة...).

    ثم يتحدّث الكاتب عن زيارة أهل الفتاة التي سنعرف خلالها اسمها،(سميّا)، لأهل سامي. ولنعرف أيضاً أنهما متماثلان عمراً، عرف سامي ذلك عبر أخيها سميح، الذي يصغرها بثلاثة أعوام. وفي إشارةٍ دالّة يذكر الكاتب:

    (على أنّه ظلّ فترةً متردّداً، إلى أن حثّه أبوه على الدخول إلى غرفته وارتداء زيّه الديني. ومرّ "بالدار" فرأى سميّا، ورأته أمها وأختها فسّلمتا عليه بترحاب. ولكنّهما إذ رأتاه عائداً وقد ارتدى الجبّة والعمّة، حجبتا وجههما بيديهما حتى لا يراهما... فعجب لذلك. وأمّا سميا، فقد لمح على وجهها علامة الاندهاش والتعجّب، ولم يُتح له أن يعرف أكثر من ذلك إذ دخل غرفة الاستقبال على عجل، فاستقبله الأب مرحّباً مردّداً: "ما شاء الله... ما شاء الله!").

    فأصبح جل همّه أن يعرف رأي سميا به شيخاً. ثم يروي الكاتب حادثة ذهاب الفتى إلى الغابة ليترجم روايةً فرنسيّة، وكيف صادف هناك سميا وأخاها يبغيان الصّيد، وكيف ضاع أخوها وعرض عليها المساعدة ليجري المشهد التالي:

    (وعاد يغلق كتابه ودفتره، ومضى يهم بأن يحثّ خطاه مسرعاً، ولكنّه رآها تتخلّف عنه فجأةً ثم تتوقّف. والتفتَ إليها، فبادرته بقولها:

    -لا... أرجوك... لا تذهب معي!

    فسألها وقد بدأت الخيبة ترتسم على وجهه:

    -ولماذا؟

    فلم تجبْ. ثم أخذت تتراجع على مهل. وظلّ هو يسائلها بعينيه.

    وظلّت هي تتراجع، ثم قالت:

    -أرجوك... لا تذهب معي... أنت شيخ...

    وحين غابت بين الأشجار أخذ يتساءل ببلاهة:"ماذا تعني؟ هل تقصد لا أنّه يليق بي، أنا الشيخ، أن أسير معها... أم أنها بدأت تخاف منّي بعد أن تذكّرت أني شيخ؟"

    وعاد إلى البت بخطى متثاقلة. وحين دخل غرفته وغرفة إخوته، وقع بصره أوّل ما وقع على الجبّة والعمة معلقتين على المشجب.

    وللمرّة الأولى منذ ارتداهما، أحسّ لهما بالكره والنفور).
    د. شادي عمار
    د. شادي عمار
    المحرر الأدبي
    المحرر الأدبي


    ذكر عدد الرسائل : 134
    العمر : 43
    العمل/الترفيه : المحرر الأدبي
    المزاج : هادي
    تاريخ التسجيل : 16/03/2008

    الخندق الغميق Empty الخندق العميق

    مُساهمة من طرف د. شادي عمار 17/8/2008, 13:21

    الفصل العاشر
    يتحدث الكاتب عن دعوة ناظر المعهد للفتى حملها أبوه من العاصمة، كي يلقي خطبةً في حفل تخريج الفوج الأول من المعهد، فيخصّص معظم الخطبة عن صديقه الراحل (عزيز)، ثم عودته إلى الضيعة المصطاف واسمها (المريجات). وخلعه الجبة والعمة قبل توجهه إلى المنزل، ومن منّا لم يعرف لماذا!!؟.

    وفي بادرةٍ ذكية، يعلو صوت الفتاة محدثة أخاها، أنهما سيذهبان للصيد غداً. متعمدةً في ذلك أن يسمعها الفتى الشيخ، فيذهب سامي صباح اليوم التالي إلى الغابة ويلتقيها وأخاها هناك، حيث تعجب سميا من مطالعته رواية فرنسية رغم أنه شيخ...

    ويبقيان سويّاً يتحادثان، عن الرواية التي يترجمها وعن صديقه الراحل عزيز، فيما ابتعد سميح عنهما ملاحقاً صيده ولينتهي المشهد بالتالي:

    (ورآها تبحث في ثوبها عن منديلٍ فلا تجد، فبسط لها منديله، فمسحت به عينيها وردّته إليه وهي تقول، وقد بدأت بسمةً رقيقةً تكسو شفتيها اللتين كانتا إلى لحظة ترتعشان بالحزن:

    -إني لم أعد أخاف منك... يا سامي...

    فارتعش جسمه لسماعها تنطق باسمه مجرداً من "شيخ"... وابتسم لها بسمةً هادئة أجابته شفتاها بمثلها، ولمح في عينيها بريقاً ينمّ عن الاطمئنان.

    وظلا لحظةً صامتين وهي تنظر إليه بعينيها السوداوين الكبيرتين، حتى أغضى. وقالت سميا:

    -يجب الآن أن أنهض فأعود إلى البيت... لقد تأخرت... ويجب أن أبحث عن سميح...

    ونهض هو قبلها، فاقترب منها وبسط لها يده، فأمسكت بها وهي تبتسم، ثم أنهضها وهو ينظر في عينيها السوداوين الكبيرتين فتغضي هي هذه المرّة.

    وسحبت يدها من يده، وانطلقت تعدو، وهو ينظر إلى شعرها تهتزّ جديلته يمنةً ويسرة. وسمع صوتها منادياً أخاها عبر الغابة. وقبل أن تختفي، صاح هو يقول:

    -سنخرج صباح الغد الباكر إلى الصيد... يا سميح!

    ومرّةً أخرى، سمع صوت ضحكتها تمتزج بزقزقة العصافير قبل أن تغيب، وعاد إلى كتابه، فأخذ يترجم باندفاع وهو يشعر بأن حبه يشتد ل"مولن الكبير"، هذا الذي استمعت إلى قصته سميا وأحبته... ألا تراها بدأت تحبه هو... قليلاً... عبر صديقه مولن؟)

    ثم يروي الكاتب تبادل سامي وسميا الرسائل، ذاك عبر أخيه الأصغر، وتلك عبر الخادمة. إلى أن وقعت إحدى رسائله إليها بيد أخيه الأكبر فوزي الذي نقلها إلى أبيه وحدث المشهد التالي:

    (وبكل هدوء، قال له أبوه بعد أن اختلى به في غرفته:

    -اسمع بني! إنني أراك للمرة الثانية تتصرّف كما لو أنك لست بشيخ... فما هذا الذي تفعله الآن؟ إن هذه أعمال صبيانية لا تليق بشيخٍ رصين، فضلاً عن أنها قد تحدث فضيحةً لك ولنا. فانصرف عنها، رضي الله عليك، ولا تخيب أملي فيك!

    وصمت هو لحظات، مطرقاً إلى الأرض، ثم تشجّع فتمتم:

    -لا أظن يا أبي أن ما أفعله يضر أحداً... أو لا يليق بي، لأنني...

    وقاطعه أبوه بصوتٍ ارتفع فجأة:

    -بلى! إنه لايليق بك، أنت الشيخ ابن الشيخ، أن تتبادل الرسائل الغرامية مع ابنة الجيران!

    وشعر بالخجل يصبغ وجهه بالدم، ولكنه رفع رأسه وقال لأبيه:

    -إن الله لم يخلق المشايخ بلا قلوب!

    فصاح به أبوه:

    -ولكن الله عزّ وجل خلق لهم عقولاً راجحة تغلب عواطفهم وشهواتهم... هل سمعت؟

    ثم استطرد بلهجةٍ جافّة:

    -إنني أمنعك على كل حال من مجادلتي.. لقد أصبحت وقحاً بالفعل..

    وسرعان ما نهض من مقعده، ونظر إلى أبيه بتحد وهو يقول:

    -لا.. لست بالوقح... كل ما هنالك أني أخالفك بالرأي!

    ولم ينتظر جواب أبيه الذي بدأ يرعد ويتوعّد، بل فتح الباب ليخرج، ففاجأه أخاه فوزي واقفاً عنده يتلصص ويتسمع، فقذف وجهه بقوله:

    -دساس... حقير!

    فتراجع فوزي مبهوتاً، ولكنه ما لبث أن ضحك ضحكة استهزاء.).

    ثم تمرض سميا ستة أيام، يشعر خلالها بعمق حبه لها، لا متوانياً في بعث رسائل لها عبر أخيها سميح بلا وجلٍ من أحد...

    وأخيراً التقيا في الغابة بعد مضي أسبوع وحدث التالي...

    (وحين وافته سميا إلى الغابة بعد أسبوع، كان على وجهها شحوب، ولكنه أحس أنه شحوب يزيد وجهها جمالاً وشفافية.

    وجلست إلى جذع الشجرة قبالته، كما اعتادت أن تفعل، ولكنه نهض فجلس إلى جوارها وتناول كفها بلهفةٍ واندفاع وراح ينظر في عينيها الكبيرتين السوداوين من غير أن ينغِّم بحرف.وقالت له إن رسائله إليها كانت خير عزاءٍ لها في مرضها، وأنها تعد هذه الرسائل أثمن كنزٍ تملكه.

    وحين أدنى كفها من فمه يقبلها بشغف، كانت هي تدني شفتيها من مسمعه لتهمس بأنها تحبه، وأنها سوف تحبه إلى الأبد..).

      الوقت/التاريخ الآن هو 20/5/2024, 15:31