أيتها الغالية...
لو أردت الحقيقة فأنا لا اعرف ماذا يتعين عليّ أن اكتب لك..كل الكلمات التي يمكن أن يخفقها قلم مشتاق كتبتها لك عندما كنت هناك, أما الآن..فلا شيء أستطيع أن لا أكرره على مسمعك.. ماذا أقول لك؟ أأقول كما يقول أي إنسان سوي بان حبك يجري هادراً في دمي كطوفان لا يلجم؟ كنت أستطيع أن أقول لك ذلك لو كان هذا الذي يجري في شراييني شيئا ذا قيمة.. ولكنني في الحقيقة إنسان مريض.. فالدم الذي يحترق فيّ لا قيمة له على الإطلاق: فهو دم يليق بإنسان عجوز, نصف ميت, نصف ساكن, ليس في صدره سوى صناديق الماضي المقفلة, أما مستقبله فمجرد شمعة تضيء آخر لهبها كي تنطفئ, كي ينتهي كل شيء..
كنت اعتقد, أيتها الغالية, أن الأيام حين تمر سوف تبلسم قليلا من الجرح.. ولكن يبدو لي الآن أنني اشتد تهاويا كشيء افرغ من تماسكه على حين فجأة فهو لا يعرف ماذا يقيمه. أن كل يوم يحفر في صمودي صدعا لا يعوض.وكل لحظة تصفع وجهي بحقيقة أمر من حقيقة.. اليوم صباحا صعدت الدرج راكضا وحين أشرفت نهايته أحسست بقلبي ينشد على ضلوعي ويتوتر حتى ليكاد ينقطع..أي شباب هذا؟ أي قيمة تبقى يا عزيزة؟ آية قيمة؟ لماذا أسير اكثر إلى الأمام؟ أي شيء يلوح كالشبح في ظلمة سوادها أقتم من ضمير طاغية؟ أي شيء أفدته من حياتي كلها..نعم ؟ أي شيء؟ ولكنني كنت أعيش من اجل غد لا خوف فيه..وكنت أجوع من اجل أن اشبع ذات يوم.. وكنت أريد أن اصل إلى هذا الغد..لم يكن لحياتي يوم ذاك أية قيمة سوىما يعطيها الأمل العميق الأخضر بان السماء لا يمكن أن تكون قاسية إلى لاحدود.. وبان هذا الطفل, الذي تكسرت على شفتيه ابتسامة الطمأنينة, سوف يمضي حياته هكذا, ممزقاً كغيوم تشرين, رماديا كأودية مترعة بالضباب, ضائعا كشمس جاءت تشرق فلم تجد افقها..
ولكن السماء, والأرض, وكل شيء, كانوا على شكل مغاير لأمال صغيرة... لقد مضت قاسية بطيئة.. وحين كبر تسلمته عائلته كي يعطيها اللقمة التي أعطته يوم لم يكن يستطيع أن ينتزعها بنفسه.. المسؤولية شيء جميل... ولكن الرجل الذي يواجه مسؤولية لا يقدر على احتمالها تسلب رجولته شيئا فشيئا تحت ضغط الطلب...كل شيء في العالم كان يقف في وجهه...كل إنسان كان يصفعه, وكل يوم يمر كان يبصق في وجهه شعورا مرا حاد المرارة بالتقصير.
ورغم ذلك... كنت أقول لذات نفسي "اصبر، يا ولد، أنت ما زالت على أعتاب عمرك، وغداً، وبعد غد، سوف تشرق شمس جديدة, الست تناضل الآن من اجل ذلك المستقبل؟ سوف تفخر بأنك أنت الذي صنعته بأظافرك, منذ اسه الأول...إلى الأخر" وكان هذا الأمل يبرر لي ألم يومي؛ وكنت أحدق إلى الأمام أدوس على أشواك درب جاف كأنه طريق ضيق في مقبرة...
في جنازتي القسم الاول
للأديب الشهيد غسان كنفاني
لو أردت الحقيقة فأنا لا اعرف ماذا يتعين عليّ أن اكتب لك..كل الكلمات التي يمكن أن يخفقها قلم مشتاق كتبتها لك عندما كنت هناك, أما الآن..فلا شيء أستطيع أن لا أكرره على مسمعك.. ماذا أقول لك؟ أأقول كما يقول أي إنسان سوي بان حبك يجري هادراً في دمي كطوفان لا يلجم؟ كنت أستطيع أن أقول لك ذلك لو كان هذا الذي يجري في شراييني شيئا ذا قيمة.. ولكنني في الحقيقة إنسان مريض.. فالدم الذي يحترق فيّ لا قيمة له على الإطلاق: فهو دم يليق بإنسان عجوز, نصف ميت, نصف ساكن, ليس في صدره سوى صناديق الماضي المقفلة, أما مستقبله فمجرد شمعة تضيء آخر لهبها كي تنطفئ, كي ينتهي كل شيء..
كنت اعتقد, أيتها الغالية, أن الأيام حين تمر سوف تبلسم قليلا من الجرح.. ولكن يبدو لي الآن أنني اشتد تهاويا كشيء افرغ من تماسكه على حين فجأة فهو لا يعرف ماذا يقيمه. أن كل يوم يحفر في صمودي صدعا لا يعوض.وكل لحظة تصفع وجهي بحقيقة أمر من حقيقة.. اليوم صباحا صعدت الدرج راكضا وحين أشرفت نهايته أحسست بقلبي ينشد على ضلوعي ويتوتر حتى ليكاد ينقطع..أي شباب هذا؟ أي قيمة تبقى يا عزيزة؟ آية قيمة؟ لماذا أسير اكثر إلى الأمام؟ أي شيء يلوح كالشبح في ظلمة سوادها أقتم من ضمير طاغية؟ أي شيء أفدته من حياتي كلها..نعم ؟ أي شيء؟ ولكنني كنت أعيش من اجل غد لا خوف فيه..وكنت أجوع من اجل أن اشبع ذات يوم.. وكنت أريد أن اصل إلى هذا الغد..لم يكن لحياتي يوم ذاك أية قيمة سوىما يعطيها الأمل العميق الأخضر بان السماء لا يمكن أن تكون قاسية إلى لاحدود.. وبان هذا الطفل, الذي تكسرت على شفتيه ابتسامة الطمأنينة, سوف يمضي حياته هكذا, ممزقاً كغيوم تشرين, رماديا كأودية مترعة بالضباب, ضائعا كشمس جاءت تشرق فلم تجد افقها..
ولكن السماء, والأرض, وكل شيء, كانوا على شكل مغاير لأمال صغيرة... لقد مضت قاسية بطيئة.. وحين كبر تسلمته عائلته كي يعطيها اللقمة التي أعطته يوم لم يكن يستطيع أن ينتزعها بنفسه.. المسؤولية شيء جميل... ولكن الرجل الذي يواجه مسؤولية لا يقدر على احتمالها تسلب رجولته شيئا فشيئا تحت ضغط الطلب...كل شيء في العالم كان يقف في وجهه...كل إنسان كان يصفعه, وكل يوم يمر كان يبصق في وجهه شعورا مرا حاد المرارة بالتقصير.
ورغم ذلك... كنت أقول لذات نفسي "اصبر، يا ولد، أنت ما زالت على أعتاب عمرك، وغداً، وبعد غد، سوف تشرق شمس جديدة, الست تناضل الآن من اجل ذلك المستقبل؟ سوف تفخر بأنك أنت الذي صنعته بأظافرك, منذ اسه الأول...إلى الأخر" وكان هذا الأمل يبرر لي ألم يومي؛ وكنت أحدق إلى الأمام أدوس على أشواك درب جاف كأنه طريق ضيق في مقبرة...
في جنازتي القسم الاول
للأديب الشهيد غسان كنفاني