اليوم سوف أتحدث عن المحور الأخير من المحاور الثلاثة التي تجتمع لتثبت أنّ :
أسلوب القرآن هو منتهى نهايات الفضيلة البيانية
وهذا المحور هو : " إقناع العقل " و " إمتاع العاطفة "
في النفس الإنسانيّة قوّتان : قوّة التفكير , وقوّة الوجدان , وحاجة كلّ واحدة منهما غير حاجة أختها.
فأمّا إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته وعن الخير للعمل به , وأمّا الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذّة وألم , والبيان التّام هو الّذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين فيؤتيها حظّها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معاً
فهل رأيت هذا التمام في كلام النّاس ؟؟؟
لقد عرفنا كلام الحكماء والعلماء , وعرفنا كلام الأدباء والشعراء , فما وجدنا من هؤلاء وهؤلاء إلا غلوّاً في جانب وقصوراً في جانب آخر .
فأمّا الحكماء فإنّما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاءً لعقلك ولا تتوجّه نفوسهم إلى استهواء نفسك واختلاب عاطفتك.
وأمّا الشعراء فإنهم يسعون إلى استثارة وجدانك وتحريك أوتار الشعور من نفسك فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون حقيقة أو تخيلاً .
وكلّ امرئ حين يفكر فإنّما هو فيلسوف صغير وكلّ امرئ حين يشعر فإنّما هو شاعر صغير
فسل علماء النفس ..
" هل رأيتم أحداً تتكافأ فيه قوّة التفكير وقوّة الوجدان وسائر القوى النفسيّة على سواء؟؟
ولو مالت هذه القوى إلى شيءٍ من التعادل عند قليل من الناس فهل ترونها تعمل في النفس دفعة واحدة وبنسبة واحدة ؟؟
يجيبونك بلسان واحد ..
"كلا بل لا تعمل إلا متناوبة في حال بعد حال وكلّما تسلطت واحدة منهنّ اضمحلّت الأخرى وكاد ينمحي أثرها ؛ فالّذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه والّذي يقع تحت تأثير لذّة أو ألم يضعف تفكيره وهكذا لا تقصد النفس الإنسانيّة إلى هاتين الغايتين معاً قصداً واحداً "
وصدق الله حين قال :
( وما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه )
فكيف تطمع من إنسان أن يهبك لك الطلبين على سواء وهو لم يجمعهما في نفسه
أمّا أسلوب واحد يتجه اتجاهاً واحداً ويجمع في يديك هذين الطرفين معاً , كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقاً وأزهاراً وثماراً معاً فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر ولا هو من سنن الله في النفس
فمن لك إذاً بهذا الكلام الواحد الّذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي أولئك الفلاسفة المتعمّقين , ومن المتعة الوجدانيّة بما يرضي أولئك الشعراء المرحين ..
ذلك هو الله ربّ العالمين فهو الّذي لا يشغله شأن عن شأن وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معاً بلسان , وأن يمزج الحقّ والجمال معاً يلتقيان ولا يبغيان , وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجّهت ..
ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حقّ العقل من حكمه وعبره
أولا تراه في تقديم براهينه وأحكامه لا ينسى حظّ القلب من تشويق وترقيق
يبثّ ذلك في مطالع آياته ومقاطعها
( تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله )
(إنّه لقول فصل وما هو بالهزل )