عَدوى الصّورة
صورتُه المنغرسة في كبدِ الغرفة كما في كبدي، رتّبت عليّ عادات فرضها وجودُه المُكابر. فما زِلتُ في بداية الطريق، وسبقني الرّكبُ منذ زمن...
ساح القتال الأعلى هو الأمم المقهورة المستباحة، وحيث أقطنُ، سيكون مختبري الصغير لأكثر التجارب الثوريّة ثوريّةً!!
بدأتُ بإطالة ذقني وارتداء قُلنسوته،حدَدْتُ نظراتي مثله،كلامي الهادئ مقتضب، وإذا هدَرتُ... نبعتِ الخُطَبُ مرعدةً حانقة!! لينوءَ الحضور بظلامات الرأسمالية، وقد عرفوا معظمها للتو... وللتوّ فقط!.
حتّى إنّني حظّرتُ على أمّي زيارة زوجُ العميد الثري،فهو عدوّ العمّالِ وأداةُ قمعِهم.أختي أيضاً... حرمتُها من مرافقة صاحبِ شركة ألبسة، فأجوره بالكاد تسدُّ رمقَ أناس أتوا من ريفٍ بعيد، بأحلامٍ كبيرة تقلّها أجنحةٌ مهيضة.
أخيراً... نجحْتُ في إقناع أبي بإرسالي إلى الاتحاد السوفييتي، وللحقيقة لم ألقَ في ذلك عناء.لأعرف فيما بعد أنّه خاف علي من أيادٍ كثيرة امتدت إلى أصدقائي ومسختْهُم! في غرفٍ بقضبان مرئيّة وجلاّدين غلاظ، وأخرى بقضبان من دراهم وجلاّدين ناعمين، يُمحِضونك الرياء ويتسقّطون ردّتك إلى جهلكَ القديم. ليكون المسخُ الوليد هجيناً بين أفعى ونمرٍ مُقتَلعِ الأنياب والأظافر...
بقَيتُ في موسكو سنتيَن، الأحمر في كلّ مكان، وأنا أرفرفُ، أعلو ولا أحط!! صورُ الزعيم، والحوض الذي يكتنفُ الجثمان المقدّس، تحيّيني الأغاني الثوريّة... فجأة... امتدّت يدٌ من قلب الظلام، وأيقظتني بقسوة! لألفى نفسي هنا، في غرفتي _مصنع التجارب الثوريّة_ محطّماً...
كان أبي، وطيلة هاتين السّنتين، يفصّل منصباً على مقاسي. بعد أن طمر العقبات كلَّها بالمال، رفضتُ، كيف أنضمّ لأعداء الشعب على مائدةٍ واحدة أتقاسم معهم لحمه!؟ لكنّ والدي كان حازماً. اتّبع التضييق تارةً، ما جعلني صعلوكاً في بيوت الأقارب المشفقين، والإغداق تارةً، الذي فتّح داخلي التّوق إلى الترسّب قشرةَ ذهبٍ تعِبَت من العوم اللامتناهي إلى قاعٍ يغصّ بطحالب مطمئنّة.
وملَلْت العوم أخيراً، فجلستُ على المائدة المُوعودة، نهماً مع غيري من الأكابر للحمِ الشّعب المدجّن، والمسمّن جيداً. متقناً فنون تقطيعه وطهوه بسرعةٍ قياسية أدهشت جميع النهمين بمن فيهم والدي نفسه!!
بيْد أنّ غيفارا لم يتركْني أهنأْ طويلاً، فصورتُه التي تركْتها خطأً مغروسةً في كبدِ الغرفة، وقد علاها الغبار... رأيتُه إلى جانبها، أيفعُ وأصغر عمراً... وأناديه: "ولدي".