كان قد بدأ يرسمُ خطواته الأولى في دراسة الطب، حين تعرف إلى فتاة في كلية الآداب، فكتب إليها طالباً أن تكون عشتاره المقدَّسة، ولتكون حياتهما معاً نيرفانا الخلود، وبكثير من الحنين ردَّت بأنها ستكون له عشتار، وسيعزفا معاً على قيثارة الحب الأزلي، وبعد أن تحوَّلت إلى عشتاره المقدسة أصبحا اثنين يجمعهما قلب واحد، بدأت قصص الواقع تأخذ مكانها في حياة العاشقين، وكما هي العادة على الشاب أن يدفع ثمن الحب في كلِّ "ركبة سرفيس"، وعلى كل فنجان قهوة وكأس شاي، حيث إنَّ .
هذه الأمور لها حصة من الوقت الطويل الذي يقضيانه معاً، فلم يعدْ مصروفه الذي يأخذه من والدته يكفيه ويكفيها، فصخرة الواقع أكبر بكثير من كل أحلامه، ومخصصاته اليومية لم تكن تكفيه مصروف طريقه، فكيف لو أراد أن يدفع عنها في "السرفيس"، أو أن يشرب معها أيَّ شيء في كافيتيريا الجامعة المتواضعة؟ من ذلك بدأ هذا الشاب بالتفكير في حياته القادمة مع نصفه الآخر، وتفاقم وضع الشاب يوماً بعد يوم، ما دفعه لمصارحة فتاته طالباً منها إن وجدت شخصاً مناسباً أن لا تتردَّد في الموافقة عليه، لأنَّ مشوار "الطب" طويل جداً بين تخرج واختصاص و.. و.. والبدء بتأسيس المستقبل قصتة ستطول، ورغم تأكيدها أنها ستنتظره إلا أنَّ قرار إنهاء مسلسل أحلامه معها والعودة إلى الواقع كان حاسماً، فما للحب من مكان عند الفقراء.
مابين الواقع الراهن ومتطلبات المستقبل القادم، يعيش الشبان السوريون هاجساً أساسياً في السفر أو الخروج من الواقع الذي يعيشون فيه، للهروب من واقع لا يعرفون ماذا سيكون عليه المستقبل، فما أن ينهي الشاب دراسته حتى تتحطَّم أحلامه على صخرة الواقع الذي لا يبقيه إلا تحت رحمة القطاع الخاص، أو ينتظر دوره على سكة المنتظرين في طابور مكاتب التشغيل، تلك الصور تتشعَّب يوماً بعد يوم لديه، فمتطلبات الحياة تزداد، من تأمين المسكن إلى العمل إلى انتظار أسئلة الناس من حوله عن مدى وضعه الاجتماعي الذي ينوي الوصول إليه، وانتهاء بمقارنة نفسه مع أبناء جيله ممن لم يتعلَّموا، أو من الذين يحصلون على مزايا من جراء معرفتهم بأشخاص معيَّنين لهم ثقلهم.
الخطة الخمسية العاشرة أكَّدت دور الشباب وتطوير قدراتهم، منطلقة من أنَّ سياسات تمكين الشباب والمراهقين تنبعث من إدراك المجتمع السوري وثقافته وتراثه بأهمية دور الشباب كأداة فاعلة في عملية البناء والتطوير ورسم خارطة المستقبل، كما يشتمل هذا الإدراك على أنَّ الشبان يواجهون أكثر من غيرهم مخاطر غير مسبوقة في عالم متغير بسرعة، مشيرةً إلى أنه لابدَّ من العمل على ربط أهداف التعليم ومخرجاته والتدريب بالصورة المنشودة للشباب، لمواجهة تحديات العصر وتدعيم التنمية المستدامة، وأيضاً تمكين الأسرة السورية من ممارسة أدوارها الحضارية والنفسية والاجتماعية والسياسية أمام الشبان، وتوجيه اهتمامات منظمات المجتمع الأهلي والمؤسَّسات الحكومية وغير الحكومية إلى دعم الأبوين بأساليب التنشئة الاجتماعية، وكذلك تعزيز مدخلات ثقافة الشباب الحضارية والتقنية والسياسية، وتمكين مشاركتهم في الحوار الاجتماعي، بالإضافة إلى توسيع الخيارات أمام الشبان في مجال سوق العمل وكفالة فرص متكافئة لكلا الجنسين، مع مراعاة الحدّ من ظواهر الاستغلال بكافة أشكاله، وتمكين الشباب من المشاركة في عملية صنع القرار على جميع أصعدة المجتمع؛ السياسية والتشريعية والاجتماعية، والمشاركة في تصميم الخطط والبرامج التي تستهدف قضاياهم ومشروعاتهم، والعمل على إيجاد الظروف السياسية والمادية والقانونية والاجتماعية والثقافية، لتهيئة بيئات مأمونة داعمة للصحة الإنجابية وحمايتها من الأمراض كافة بما فيها فيروس نقص المناعة البشرية.
وكما ركَّزت الخطة على تعزيز حقوق الشباب ومتابعة احتياجاتهم لمحاربة الفقر واجتثاث أسبابه وخاصة في الأسر الفقيرة من خلال زيادة استثمارات الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية، والتأكيد على توجيه الخطاب الإعلامي لإبراز دور الشباب والتواصل معهم لتمكينهم وتفعيل مشاركتهم المجتمعية.
السفر أول خطوة
معظم شباب الجامعات يحصلون على مصروفهم اليومي من أهلهم، وإكمال الحياة في بلدهم ليس له مكان في تفكيرهم بالمستقبل، فيقول علاء (سنة ثانية أدب فرنسي): "نحن لا نفكِّر في الوقت الحالي إلا في الدراسة، ومصروفنا نحصل عليه من أهلنا، والمستقبل طبعاً ليس هنا، فأنا أريد السفر وإتمام الدراسة في الخارج، ففي السفر نحصل على الخبرة والمعرفة والعلاقات، والعائد المادي والاستقلالية عن الأهل، وربما أفكِّر في الحصول على الجنسية، فنحن ليس لدينا أيّ خيار، حتى إنَّ الغالبية تسخر من اختصاصي الذي هو أدب فرنسي، فالفرص المتاحة لهذا الفرع قليلة جداً إن وجدت وأفضلها هي مدرِّس". وحين سألناه عن الزواج، كانت ابتسامة السخرية الصفراء من أبرز الإجابات، ليضيف "إنَّ هذا بعيد جداً".
كل شيء مشكلة
غلاء الأسعار بات معضلة أمام الأسرة عموماً، وحتى الطلاب وصل بلل الأسعار إلى ذقونهم، فالكتب الجامعية أصبحت أسعارها مرتفعة، يقول بلال خميس (طالب حقوق سنة ثالثة): "كل شيء أصبح مشكلة، فلا يوجد عمل، وغلاء الأسعار في كلِّ مكان، ففي الجامعة رفعوا أسعار الكتب، أما إذا سألتموني عن الزواج والمستقبل فهما من الأمور المنسية قبل الثلاثين وقبل السفر، فلا يوجد لدي سكن إلا إذا قام أهلي بتأمينه لي، أو إذا تزوَّجت فتاة غنية".
الحمل على الأهل كبير
باتت أحلام الذكور في تأسيس حياة مستقلة ومستقبل مشرق، هي ذاتها أحلام الفتيات اللاتي بدأت مسؤولياتهن تقترب إلى حدٍّ كبير من مسؤوليات الذكور، فتقول نور زكريا (أدب إنكليزي سنة ثالثة): "أنا أفكِّر في العمل أثناء الدراسة، إلا أنني لا أجد فرصة، فالحمل كبير على الأهل، المواصلات اليوم غالية، والمحاضرات أيضاً، والكتب" وتشاركها في الرأي بسمة سعيد (طالبة مكتبات سنة ثانية) فتقول: الفتيات يسعين لتأسيس حياتهن بأنفسهن، ليقينهن أنه لا يوجد أحد يمكن الاعتماد عليه، والاقتصاد طبعاً يؤثِّر على الزواج، حيث بات الرجل يبحث عن الفتاة الموظفة لتشاركه حمل تكاليف الحياة".
فروق عمرية في الزواج
ليست المشكلة فقط في تأخُّر الزواج، وإنما ارتبط هذا التأخر بزيادة نسب العنوسة واختيار الشاب الذي بلغ عمره خمسة وثلاثين عاماً لفتاة في العشرين من عمرها، وابتعاده عن الأكبر سناً، حيث أصبح هناك فروق عمرية كبيرة في الزواج، تقول رولى (مكتبات سنة أولى): "نحن ننظر إلى ابن الخامسة والعشرين الذي مازال طالباً ويحصل على مصروفه من أهله على أنه مازال "ولداً" ولا يعتمد عليه، فليس باستطاعة أيِّ شاب أن يصرف على نفسه، وسنّ الزواج له ليست أقل من 35 سنة، وتضيف "الله يسامح الحكومة ويساعدها" فهي لا تحاول أن تفعل أيَّ شيء بخصوص الشباب ولا أنتظر شيئاً من الحكومة ولا أنتظر أن أتوظَّف في القطاع العام على الرغم من أنه حتى مَن يعمل في القطاع الخاص مصروفه لا يتناسب مع دخله.
دعاء "إدارة أعمال سنة أولى" تحكي لنا عن واقع أسرتها، فوالدها متقاعد ولديها شقيقان اثنان أحدهما في الخدمة الإلزامية والآخر متزوِّج ولديه أطفال، وطبعاً الراتب التقاعدي لوالدها لا يكفي، وشقيقاها كل منهما لديه همومه، ولديها أختان يقع على كاهلهما تأمين متطلبات المنزل والمصروف".
صيف بتكيف
كما للطلاب همومهم من المستقبل والتي غالباً ما تكون مضمرة وغير معلنة، كذلك هو الحال مع غير الجامعيين كما يقول عمار (عامل وعمره 23 سنة): "من السابق لأوانه بكثير التفكير في الزواج وأنا أعمل والأمور لا بأس بها ولا نطلب من الدولة أيَّ شيء فموضوع الزواج الآن منسيٌّ حتى إشعار آخر ولا أعرف في أيِّ سن يمكن أن أتزوَّج فأنا لا أملك سكناً ولا أعتقد أنني سأستطيع أن أؤمنه ودخلي يكفيني "بطلوع الروح" وكل شيء مؤجَّل إلى أن ييسرها الله".
والموظفون أيضاً ليسوا بأحسن حال فيقول أحمد (موظف في القطاع العام وعمره 29 سنة): "لا توجد مشاكل والحياة على أفضل ما يكون ولا توجد هموم وكما يقول المثل "صيف بتكيف في هذه الدنيا" ويكمل لماذا الزواج؟ فهو مشاكل لها أول وليس لها آخر أما تأمين السكن فهو حلم لا أحاول التفكير فيه والراتب "ندافش" معه في هذه الحياة".
دور الحكومة
أما عن مطالب الشباب من الحكومة فيقول زاهر (طالب أدب فرنسي): "للدولة دور كبير، ولكن ليس لدينا، فمن المفترض أن تؤمِّن فرص العمل للخرِّيجين، ولكننا نطلب منها الالتزام بكل الفروع الجامعية، أما عن الواقع الاقتصادي الذي نعيشه فنحن نبحث عن الأفضل منه ولا سيما أنَّ الدخل الذي تعيش عليه أسرنا متدنٍّ جداً والأسعار عالية جداً ونحن كشباب نعمل في الصيف للحصول على مصروفنا فأهلنا غير قادرين على تأمين متطلبات كل فرد من أفراد الأسرة وأنا شخصياً راودتني كثير من الأفكار الخاصة بتأمين المستقبل كأن أترك الجامعة وأتفرَّغ للعمل".
القاسم المشترك بين جميع الشباب غير ضيق الحال هو طلبهم من الدولة في تحسين أوضاعهم كما أكَّد بلال مشتركاً بذلك مع وسيم محمد (مكتبات سنة ثالثة) فيقول: "للدولة دور كبير لو أنها تعطي الطلاب رواتب ولو رمزية وأن تلتزم في الصيف بتشغيل الطلاب في الوزارات كلٌّ بحسب اختصاصاته أو أن تسهل القروض فهناك أكثر من طريقة لمساعدتنا نحن الشباب ولكن لا تتم حتى مناقشة ذلك، وإذا لم ترعانا ونحن في الجامعات فعلى الأقل عليها أن تلتزم بنا بعد التخرج فنحن رأينا الجيل الذي سبقنا ،حيث تخرَّج من الجامعة وهو عاطل عن العمل، وبصراحة نحن لا ننتظر شيئاً، أما موضوع الزواج فهو من المنسيات بالنسبة إلى كل الشباب، فهناك أمور أهم تتعلق بخدمة العلم وتأسيس الحياة وتأمين فرصة عمل فإذا تزوَّجت لا يوجد سكن ولا يوجد مردود مادي فكيف سيكون لدي عائلة كاملة وأنا لا أستطيع أن أؤمِّن مصروفي؟ نحن الشباب دائماً نشعر بأننا نرجع إلى الوراء" .
أما الطالبة بسمة تقول: "لا أعتقد أنَّ الدولة يمكن أن يطلب منها أكثر من تأمين فرص عمل مناسبة".
مشكلات لم تتبلور
الدكتور طلال مصطفى أستاذ الخدمة الاجتماعية في قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق يقول: "مشكلات الشباب عديدة يمكن تحديدها بحسب الفئات العمرية ومستويات دراستهم فهناك شيء ذاتي يتعلَّق بطبيعة المرحلة العمرية بين 15 إلى 24 وطبيعة التنشئة، وبين الشباب الجامعي وغير الجامعي، وشباب المدينة والريف، ولكل فئة طبيعة معيَّنة من المشكلات وأهم مشكلة عموماً لجميع الشباب هي مشكلة تأمين العمل والتي هي الموجِّّه الأساسي لباقي المشكلات، فنسبة التسرُّب من الدراسة عالية جداً، فالفاقد من التعليم الثانوي والجامعي كبير، وكثيراً ما نسمع تذمّر الشباب، يتساءلون لماذا ندرس ومن ثم نعمل من دون شهاداتنا أو في أي عمل يتطلب الجهد البدني وليس الذهني؟"
لا يجدن فرصة للزواج
ويضيف الدكتور طلال: إنَّ المشكلة الثانية التي سنراها في المستقبل هي عدم تأمين المسكن وعدم القدرة على الزواج فلدينا إحصاءات تشير إلى أنّ َ 50 % من نساء سورية لا يجدن فرصة للزواج بسبب المشاكل الاقتصادية والمشكلة الأخطر التي بدأت تتبلور في الحياة الاجتماعية وستطفو على السطح بعد فترة هي ثقافة العلاقات الجنسية غير الشرعية وحتى الفتيات بدأن يفكِّرن في ذلك وحتى من لديه فرصة عمل يفكِّر في ذلك بسبب الدخل المتدني، فمن يريد الزواج لن يكفيه دخله الحالي سواء كان يعمل في القطاع الخاص أم العام لتأسيس حياة عائلية مقبولة وبالتالي يحتاج إلى عمل إضافي، فالعنوسة والعلاقات الجنسية غير شرعية غير ظاهرة اجتماعياً حتى الآن، لكن أعتقد أنه في السنوات العشر القادمة ستصبح ظاهرة مقبولة من قبل الآباء .
العامل الجوهري
ويتابع الدكتور مصطفى: بالعودة إلى العامل الجوهري وهو العامل الاقتصادي أيضاً نرى أنه يؤدِّي بالشباب غير الجامعيين بشكل خاص إلى الانحراف والتسكع الليلي وتعاطي الكحول أو المخدرات، وحل هذه المشكلات لا يكون بشكل فردي وإنما من خلال معالجة الأسباب الكامنة وراءها، فعندما أؤمِّن فرصة عمل ودخلا مقبولا سأجد علاجاً لبقية العقبات أما أي حلول أخرى ، فهي حلول مسكنة لا سيما أنه لدينا الكثير من طلاب الشهادة الثانوية لا يستطيعون دخول أيَّ فرع جامعي بسبب ارتفاع المعدلات وحتى طلاب الجامعات بين السنة الأولى والأخيرة لديهم تصوّر بأنهم لن يجدوا فرصة عمل وهذا سيخفِّف من حماستهم للدراسة، فالمشكلة الأخرى أنه ليست لدينا آلية علمية لربط التعليم بسوق العمل الذي اختلف عن السابق فنحن ننتقل من مرحلة كانت فيها الدولة مسؤولة عن حملة الشهادات وتوظيفهم وبدأنا نتجه إلى اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يعتمد على الكفاءة العلمية. فقطاع الدولة الذي كان يستقبل معظم خرِّيجي الجامعات لم يعد يؤدِّي هذا الدور، والدول ذات الرفاهية الاجتماعية العالية هي التي تتبنَّى اقتصاد السوق الاجتماعي وفيه يجب أن تحافظ الدولة على المكتسبات الاجتماعية الأساسية وتتَّجه إلى اقتصاد السوق الحر، أي مجانية التعليم ودعم الصحة والضمان الاجتماعي والخدمات وغير ذلك، وحتى الآن نحن مازلنا نحافظ على الشق الاجتماعي لاقتصاد السوق، ويضيف الدكتور مصطفى، إنَّ العدالة الاجتماعية محققة فليس لدينا تمييز بين الذكور والإناث والعدالة بالتوظيف موجودة ولكن المشكلة هي أننا جيل اتَّكأ على الدولة ولدينا ذهنية وثقافة تقول بأنَّ الدولة هي المسؤولة عن كل شيء والدولة عزَّزت هذا المفهوم ولا نستطيع التخلص حتى الآن من دور الدولة الرعوي أما اليوم فأتت الدولة ورفعت يدها كالأب الذي تعب ولم يعد قادراً على تأمين كل متطلبات أسرته، فالقطاع الخاص والأهلي يجب أن يشارك ويأخذ دوره في العمل الاقتصادي .
شبابنا
تعتبر شريحة الشباب مورداً اقتصادياً مهماً ويجب على الحكومات إعلاء هذه الشريحة وإعطاؤها دورها، وعليها أن تعي وتدرك دور هذا المورد الاقتصادي في المجتمع، وعياً وإدراكاً والاستفادة القصوى من طاقات الشباب، لكيلا يتحول الشباب من عناصر منتجة تخدم المجتمع، وتسهم في نمو اقتصاده، وتشارك فى مجريات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، إلى عناصر هدامة، تحطم كل ما يقف في طريقها، ومن هنا لابد أن ندق ناقوس الخطر حول هذه المشكلة، وتوظيف طاقات الشباب، وتأمين المسكن لهم، وإشراكهم في صنع القرار.
(منقول بتصرف)
هذه الأمور لها حصة من الوقت الطويل الذي يقضيانه معاً، فلم يعدْ مصروفه الذي يأخذه من والدته يكفيه ويكفيها، فصخرة الواقع أكبر بكثير من كل أحلامه، ومخصصاته اليومية لم تكن تكفيه مصروف طريقه، فكيف لو أراد أن يدفع عنها في "السرفيس"، أو أن يشرب معها أيَّ شيء في كافيتيريا الجامعة المتواضعة؟ من ذلك بدأ هذا الشاب بالتفكير في حياته القادمة مع نصفه الآخر، وتفاقم وضع الشاب يوماً بعد يوم، ما دفعه لمصارحة فتاته طالباً منها إن وجدت شخصاً مناسباً أن لا تتردَّد في الموافقة عليه، لأنَّ مشوار "الطب" طويل جداً بين تخرج واختصاص و.. و.. والبدء بتأسيس المستقبل قصتة ستطول، ورغم تأكيدها أنها ستنتظره إلا أنَّ قرار إنهاء مسلسل أحلامه معها والعودة إلى الواقع كان حاسماً، فما للحب من مكان عند الفقراء.
مابين الواقع الراهن ومتطلبات المستقبل القادم، يعيش الشبان السوريون هاجساً أساسياً في السفر أو الخروج من الواقع الذي يعيشون فيه، للهروب من واقع لا يعرفون ماذا سيكون عليه المستقبل، فما أن ينهي الشاب دراسته حتى تتحطَّم أحلامه على صخرة الواقع الذي لا يبقيه إلا تحت رحمة القطاع الخاص، أو ينتظر دوره على سكة المنتظرين في طابور مكاتب التشغيل، تلك الصور تتشعَّب يوماً بعد يوم لديه، فمتطلبات الحياة تزداد، من تأمين المسكن إلى العمل إلى انتظار أسئلة الناس من حوله عن مدى وضعه الاجتماعي الذي ينوي الوصول إليه، وانتهاء بمقارنة نفسه مع أبناء جيله ممن لم يتعلَّموا، أو من الذين يحصلون على مزايا من جراء معرفتهم بأشخاص معيَّنين لهم ثقلهم.
الخطة الخمسية العاشرة أكَّدت دور الشباب وتطوير قدراتهم، منطلقة من أنَّ سياسات تمكين الشباب والمراهقين تنبعث من إدراك المجتمع السوري وثقافته وتراثه بأهمية دور الشباب كأداة فاعلة في عملية البناء والتطوير ورسم خارطة المستقبل، كما يشتمل هذا الإدراك على أنَّ الشبان يواجهون أكثر من غيرهم مخاطر غير مسبوقة في عالم متغير بسرعة، مشيرةً إلى أنه لابدَّ من العمل على ربط أهداف التعليم ومخرجاته والتدريب بالصورة المنشودة للشباب، لمواجهة تحديات العصر وتدعيم التنمية المستدامة، وأيضاً تمكين الأسرة السورية من ممارسة أدوارها الحضارية والنفسية والاجتماعية والسياسية أمام الشبان، وتوجيه اهتمامات منظمات المجتمع الأهلي والمؤسَّسات الحكومية وغير الحكومية إلى دعم الأبوين بأساليب التنشئة الاجتماعية، وكذلك تعزيز مدخلات ثقافة الشباب الحضارية والتقنية والسياسية، وتمكين مشاركتهم في الحوار الاجتماعي، بالإضافة إلى توسيع الخيارات أمام الشبان في مجال سوق العمل وكفالة فرص متكافئة لكلا الجنسين، مع مراعاة الحدّ من ظواهر الاستغلال بكافة أشكاله، وتمكين الشباب من المشاركة في عملية صنع القرار على جميع أصعدة المجتمع؛ السياسية والتشريعية والاجتماعية، والمشاركة في تصميم الخطط والبرامج التي تستهدف قضاياهم ومشروعاتهم، والعمل على إيجاد الظروف السياسية والمادية والقانونية والاجتماعية والثقافية، لتهيئة بيئات مأمونة داعمة للصحة الإنجابية وحمايتها من الأمراض كافة بما فيها فيروس نقص المناعة البشرية.
وكما ركَّزت الخطة على تعزيز حقوق الشباب ومتابعة احتياجاتهم لمحاربة الفقر واجتثاث أسبابه وخاصة في الأسر الفقيرة من خلال زيادة استثمارات الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية، والتأكيد على توجيه الخطاب الإعلامي لإبراز دور الشباب والتواصل معهم لتمكينهم وتفعيل مشاركتهم المجتمعية.
السفر أول خطوة
معظم شباب الجامعات يحصلون على مصروفهم اليومي من أهلهم، وإكمال الحياة في بلدهم ليس له مكان في تفكيرهم بالمستقبل، فيقول علاء (سنة ثانية أدب فرنسي): "نحن لا نفكِّر في الوقت الحالي إلا في الدراسة، ومصروفنا نحصل عليه من أهلنا، والمستقبل طبعاً ليس هنا، فأنا أريد السفر وإتمام الدراسة في الخارج، ففي السفر نحصل على الخبرة والمعرفة والعلاقات، والعائد المادي والاستقلالية عن الأهل، وربما أفكِّر في الحصول على الجنسية، فنحن ليس لدينا أيّ خيار، حتى إنَّ الغالبية تسخر من اختصاصي الذي هو أدب فرنسي، فالفرص المتاحة لهذا الفرع قليلة جداً إن وجدت وأفضلها هي مدرِّس". وحين سألناه عن الزواج، كانت ابتسامة السخرية الصفراء من أبرز الإجابات، ليضيف "إنَّ هذا بعيد جداً".
كل شيء مشكلة
غلاء الأسعار بات معضلة أمام الأسرة عموماً، وحتى الطلاب وصل بلل الأسعار إلى ذقونهم، فالكتب الجامعية أصبحت أسعارها مرتفعة، يقول بلال خميس (طالب حقوق سنة ثالثة): "كل شيء أصبح مشكلة، فلا يوجد عمل، وغلاء الأسعار في كلِّ مكان، ففي الجامعة رفعوا أسعار الكتب، أما إذا سألتموني عن الزواج والمستقبل فهما من الأمور المنسية قبل الثلاثين وقبل السفر، فلا يوجد لدي سكن إلا إذا قام أهلي بتأمينه لي، أو إذا تزوَّجت فتاة غنية".
الحمل على الأهل كبير
باتت أحلام الذكور في تأسيس حياة مستقلة ومستقبل مشرق، هي ذاتها أحلام الفتيات اللاتي بدأت مسؤولياتهن تقترب إلى حدٍّ كبير من مسؤوليات الذكور، فتقول نور زكريا (أدب إنكليزي سنة ثالثة): "أنا أفكِّر في العمل أثناء الدراسة، إلا أنني لا أجد فرصة، فالحمل كبير على الأهل، المواصلات اليوم غالية، والمحاضرات أيضاً، والكتب" وتشاركها في الرأي بسمة سعيد (طالبة مكتبات سنة ثانية) فتقول: الفتيات يسعين لتأسيس حياتهن بأنفسهن، ليقينهن أنه لا يوجد أحد يمكن الاعتماد عليه، والاقتصاد طبعاً يؤثِّر على الزواج، حيث بات الرجل يبحث عن الفتاة الموظفة لتشاركه حمل تكاليف الحياة".
فروق عمرية في الزواج
ليست المشكلة فقط في تأخُّر الزواج، وإنما ارتبط هذا التأخر بزيادة نسب العنوسة واختيار الشاب الذي بلغ عمره خمسة وثلاثين عاماً لفتاة في العشرين من عمرها، وابتعاده عن الأكبر سناً، حيث أصبح هناك فروق عمرية كبيرة في الزواج، تقول رولى (مكتبات سنة أولى): "نحن ننظر إلى ابن الخامسة والعشرين الذي مازال طالباً ويحصل على مصروفه من أهله على أنه مازال "ولداً" ولا يعتمد عليه، فليس باستطاعة أيِّ شاب أن يصرف على نفسه، وسنّ الزواج له ليست أقل من 35 سنة، وتضيف "الله يسامح الحكومة ويساعدها" فهي لا تحاول أن تفعل أيَّ شيء بخصوص الشباب ولا أنتظر شيئاً من الحكومة ولا أنتظر أن أتوظَّف في القطاع العام على الرغم من أنه حتى مَن يعمل في القطاع الخاص مصروفه لا يتناسب مع دخله.
دعاء "إدارة أعمال سنة أولى" تحكي لنا عن واقع أسرتها، فوالدها متقاعد ولديها شقيقان اثنان أحدهما في الخدمة الإلزامية والآخر متزوِّج ولديه أطفال، وطبعاً الراتب التقاعدي لوالدها لا يكفي، وشقيقاها كل منهما لديه همومه، ولديها أختان يقع على كاهلهما تأمين متطلبات المنزل والمصروف".
صيف بتكيف
كما للطلاب همومهم من المستقبل والتي غالباً ما تكون مضمرة وغير معلنة، كذلك هو الحال مع غير الجامعيين كما يقول عمار (عامل وعمره 23 سنة): "من السابق لأوانه بكثير التفكير في الزواج وأنا أعمل والأمور لا بأس بها ولا نطلب من الدولة أيَّ شيء فموضوع الزواج الآن منسيٌّ حتى إشعار آخر ولا أعرف في أيِّ سن يمكن أن أتزوَّج فأنا لا أملك سكناً ولا أعتقد أنني سأستطيع أن أؤمنه ودخلي يكفيني "بطلوع الروح" وكل شيء مؤجَّل إلى أن ييسرها الله".
والموظفون أيضاً ليسوا بأحسن حال فيقول أحمد (موظف في القطاع العام وعمره 29 سنة): "لا توجد مشاكل والحياة على أفضل ما يكون ولا توجد هموم وكما يقول المثل "صيف بتكيف في هذه الدنيا" ويكمل لماذا الزواج؟ فهو مشاكل لها أول وليس لها آخر أما تأمين السكن فهو حلم لا أحاول التفكير فيه والراتب "ندافش" معه في هذه الحياة".
دور الحكومة
أما عن مطالب الشباب من الحكومة فيقول زاهر (طالب أدب فرنسي): "للدولة دور كبير، ولكن ليس لدينا، فمن المفترض أن تؤمِّن فرص العمل للخرِّيجين، ولكننا نطلب منها الالتزام بكل الفروع الجامعية، أما عن الواقع الاقتصادي الذي نعيشه فنحن نبحث عن الأفضل منه ولا سيما أنَّ الدخل الذي تعيش عليه أسرنا متدنٍّ جداً والأسعار عالية جداً ونحن كشباب نعمل في الصيف للحصول على مصروفنا فأهلنا غير قادرين على تأمين متطلبات كل فرد من أفراد الأسرة وأنا شخصياً راودتني كثير من الأفكار الخاصة بتأمين المستقبل كأن أترك الجامعة وأتفرَّغ للعمل".
القاسم المشترك بين جميع الشباب غير ضيق الحال هو طلبهم من الدولة في تحسين أوضاعهم كما أكَّد بلال مشتركاً بذلك مع وسيم محمد (مكتبات سنة ثالثة) فيقول: "للدولة دور كبير لو أنها تعطي الطلاب رواتب ولو رمزية وأن تلتزم في الصيف بتشغيل الطلاب في الوزارات كلٌّ بحسب اختصاصاته أو أن تسهل القروض فهناك أكثر من طريقة لمساعدتنا نحن الشباب ولكن لا تتم حتى مناقشة ذلك، وإذا لم ترعانا ونحن في الجامعات فعلى الأقل عليها أن تلتزم بنا بعد التخرج فنحن رأينا الجيل الذي سبقنا ،حيث تخرَّج من الجامعة وهو عاطل عن العمل، وبصراحة نحن لا ننتظر شيئاً، أما موضوع الزواج فهو من المنسيات بالنسبة إلى كل الشباب، فهناك أمور أهم تتعلق بخدمة العلم وتأسيس الحياة وتأمين فرصة عمل فإذا تزوَّجت لا يوجد سكن ولا يوجد مردود مادي فكيف سيكون لدي عائلة كاملة وأنا لا أستطيع أن أؤمِّن مصروفي؟ نحن الشباب دائماً نشعر بأننا نرجع إلى الوراء" .
أما الطالبة بسمة تقول: "لا أعتقد أنَّ الدولة يمكن أن يطلب منها أكثر من تأمين فرص عمل مناسبة".
مشكلات لم تتبلور
الدكتور طلال مصطفى أستاذ الخدمة الاجتماعية في قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق يقول: "مشكلات الشباب عديدة يمكن تحديدها بحسب الفئات العمرية ومستويات دراستهم فهناك شيء ذاتي يتعلَّق بطبيعة المرحلة العمرية بين 15 إلى 24 وطبيعة التنشئة، وبين الشباب الجامعي وغير الجامعي، وشباب المدينة والريف، ولكل فئة طبيعة معيَّنة من المشكلات وأهم مشكلة عموماً لجميع الشباب هي مشكلة تأمين العمل والتي هي الموجِّّه الأساسي لباقي المشكلات، فنسبة التسرُّب من الدراسة عالية جداً، فالفاقد من التعليم الثانوي والجامعي كبير، وكثيراً ما نسمع تذمّر الشباب، يتساءلون لماذا ندرس ومن ثم نعمل من دون شهاداتنا أو في أي عمل يتطلب الجهد البدني وليس الذهني؟"
لا يجدن فرصة للزواج
ويضيف الدكتور طلال: إنَّ المشكلة الثانية التي سنراها في المستقبل هي عدم تأمين المسكن وعدم القدرة على الزواج فلدينا إحصاءات تشير إلى أنّ َ 50 % من نساء سورية لا يجدن فرصة للزواج بسبب المشاكل الاقتصادية والمشكلة الأخطر التي بدأت تتبلور في الحياة الاجتماعية وستطفو على السطح بعد فترة هي ثقافة العلاقات الجنسية غير الشرعية وحتى الفتيات بدأن يفكِّرن في ذلك وحتى من لديه فرصة عمل يفكِّر في ذلك بسبب الدخل المتدني، فمن يريد الزواج لن يكفيه دخله الحالي سواء كان يعمل في القطاع الخاص أم العام لتأسيس حياة عائلية مقبولة وبالتالي يحتاج إلى عمل إضافي، فالعنوسة والعلاقات الجنسية غير شرعية غير ظاهرة اجتماعياً حتى الآن، لكن أعتقد أنه في السنوات العشر القادمة ستصبح ظاهرة مقبولة من قبل الآباء .
العامل الجوهري
ويتابع الدكتور مصطفى: بالعودة إلى العامل الجوهري وهو العامل الاقتصادي أيضاً نرى أنه يؤدِّي بالشباب غير الجامعيين بشكل خاص إلى الانحراف والتسكع الليلي وتعاطي الكحول أو المخدرات، وحل هذه المشكلات لا يكون بشكل فردي وإنما من خلال معالجة الأسباب الكامنة وراءها، فعندما أؤمِّن فرصة عمل ودخلا مقبولا سأجد علاجاً لبقية العقبات أما أي حلول أخرى ، فهي حلول مسكنة لا سيما أنه لدينا الكثير من طلاب الشهادة الثانوية لا يستطيعون دخول أيَّ فرع جامعي بسبب ارتفاع المعدلات وحتى طلاب الجامعات بين السنة الأولى والأخيرة لديهم تصوّر بأنهم لن يجدوا فرصة عمل وهذا سيخفِّف من حماستهم للدراسة، فالمشكلة الأخرى أنه ليست لدينا آلية علمية لربط التعليم بسوق العمل الذي اختلف عن السابق فنحن ننتقل من مرحلة كانت فيها الدولة مسؤولة عن حملة الشهادات وتوظيفهم وبدأنا نتجه إلى اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يعتمد على الكفاءة العلمية. فقطاع الدولة الذي كان يستقبل معظم خرِّيجي الجامعات لم يعد يؤدِّي هذا الدور، والدول ذات الرفاهية الاجتماعية العالية هي التي تتبنَّى اقتصاد السوق الاجتماعي وفيه يجب أن تحافظ الدولة على المكتسبات الاجتماعية الأساسية وتتَّجه إلى اقتصاد السوق الحر، أي مجانية التعليم ودعم الصحة والضمان الاجتماعي والخدمات وغير ذلك، وحتى الآن نحن مازلنا نحافظ على الشق الاجتماعي لاقتصاد السوق، ويضيف الدكتور مصطفى، إنَّ العدالة الاجتماعية محققة فليس لدينا تمييز بين الذكور والإناث والعدالة بالتوظيف موجودة ولكن المشكلة هي أننا جيل اتَّكأ على الدولة ولدينا ذهنية وثقافة تقول بأنَّ الدولة هي المسؤولة عن كل شيء والدولة عزَّزت هذا المفهوم ولا نستطيع التخلص حتى الآن من دور الدولة الرعوي أما اليوم فأتت الدولة ورفعت يدها كالأب الذي تعب ولم يعد قادراً على تأمين كل متطلبات أسرته، فالقطاع الخاص والأهلي يجب أن يشارك ويأخذ دوره في العمل الاقتصادي .
شبابنا
تعتبر شريحة الشباب مورداً اقتصادياً مهماً ويجب على الحكومات إعلاء هذه الشريحة وإعطاؤها دورها، وعليها أن تعي وتدرك دور هذا المورد الاقتصادي في المجتمع، وعياً وإدراكاً والاستفادة القصوى من طاقات الشباب، لكيلا يتحول الشباب من عناصر منتجة تخدم المجتمع، وتسهم في نمو اقتصاده، وتشارك فى مجريات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، إلى عناصر هدامة، تحطم كل ما يقف في طريقها، ومن هنا لابد أن ندق ناقوس الخطر حول هذه المشكلة، وتوظيف طاقات الشباب، وتأمين المسكن لهم، وإشراكهم في صنع القرار.
(منقول بتصرف)