فلسطين في البال
محمود الزيباوي
من
النكبة الأولى في عام 1948، إلى يومنا هذا، ستّون عاما مضت. كثيرون غنّوا
فلسطين في الأمس، وكثيرون يغنّونها اليوم، غير أن أحدا لم يغنِّها كما
غنّتها فيروز. كانت البداية مغناة "راجعون" في منتصف الخمسينات، وتبعتها
أعمال عديدة حتى مطلع السبعينات. بعضها بات من الكلاسيكيات، وبعضها الآخر
ينتظر من يعيد اكتشافه.
عام 1955، دعت إذاعة "صوت العرب" فيروز
والأخوين عاصي ومنصور الرحباني الى تسجيل مجموعة من الأعمال الغنائية في
القاهرة. بحسب الرواية المتداولة، طلب مدير الإذاعة أحمد سعيد من
الرحبانيين إنجاز عمل خاص بالقضية الفلسطينية، فكانت مغناة "راجعون".
سُجّل العمل في القاهرة بمشاركة كارم محمود الذي أدّى فيه وصلتين جميلتين،
وأُعيد تسجيله في بيروت بعد عام أو عامين، مع بعض التعديلات في النص. لم
يُطبَع التسجيل الأول على اسطوانة، وهو اليوم من الأعمال المنسية غير
المتداولة تجارياً. أمّا التسجيل الثاني، فصدر في عام 1957 على اسطوانة 33
دورة من الحجم المتوسط ضمّت على الوجه الثاني أربع أغانٍ قصيرة، وصدر بعد
فترة منفرداً على اسطوانة 45 دورة من إنتاج "فيليبس". دخل العمل دائرة
النسيان في الستينات، ولم يصدر على اسطوانة، إلى أن أعادت "شركة شاهين"
إطلاقه في "سي دي" حمل عنوانه، ضمّ أغاني اسطوانة عام 1957 وأغاني مغناة
"جسر العودة" التي تعود إلى نهاية الستينات.
في نسخة "راجعون" الأولى،
أنشد كارم محمود في مقدمة المغناة قبل دخول فيروز: "وتلك السطوح يحطّ
عليها الحمام، أبَعد النزوح تُراها تذوق السلام". وفي نسخة بيروت، غنّى
ميشال بريدي على لحن مغاير: "يا غريب الديار نسيم الجنوب، ضلّ فيك المزار
غداة الهبوب". في كلا النسختين، أنشد الكورس بعد هذا المدخل: "نحن من
الأرض الخضيبة نحن من الأرض السليبة فهل ترى بعد الليالي نزورها تلك
الحبيبة". بعد هذا القول، نجد اختلافا بين النسختين. في تسجيل القاهرة،
غنّى كارم محمود: "مقدس حبّ ثراها، مرابط الوحي سماها، أصبحت اليوم خرابا،
تشتاق للعدل رباها". أما في نسخة بيروت، فأنشدت فيروز كلمات آسرة لا أثر
لها في نسخة القاهرة:
"في البال تحيا دروبها السمر سطوحها الحمر في
البال زهر التلال/ في البال دنيا ترابها الشمس، الحب والقدس في البال رغم
المحال/ وليلة لا جمال فارقها الجمال العدل زال واسودّ لون الظلال".
فأجاب الكورس: "ولم تزل في البال شوق البال دار التلال".
باقي
المغناة شبه متطابق في النسختين، مع اختلاف بسيط في بعض الكلمات. في نسخة
القاهرة، كرر الكورس في مطلع الخاتمة: "في الليلات من الفلوات يثور نشيد
في الإعصار وفي الأمطار صداه يعيد"، ثم صدحت فيروز مرتين مع الجوقة:
الكورس: "في الأمطار راجعون في الإعصار راجعون"
فيروز: "في الرمال والتلال في الشموس والظلال"
الكورس: "في الإيمان راجعون للأوطان راجعون"
فيروز: "في الصباح في الرياح في السهول والبطاح"
الكورس: "في الأمطار راجعون".
في المقابل، غاب صوت فيروز عن خاتمة نسخة بيروت حيث غنّى الكورس:
"في
هدأة السكون في رهبة الحصون أصحابنا على الطريق الرحب يهتفون/ في الأمطار
راجعون في الإعصار راجعون/ في الشموس والرياح في الحقول والبطاح/ في
الإيمان راجعون للأوطان راجعون/ في الرمال والظلال في الشعاب والتلال/
راجعون راجعون راجعون".
غرباء
سجّلت فيروز في القاهرة
مغناة ثانية خاصة بفلسطين، وضع كلماتها الشاعر هارون هاشم رشيد، عنوانها
"غرباء". لم يُطبع هذا العمل على اسطوانة، غير أن إذاعات القاهرة ودمشق
دأبت على إذاعته حتى السبعينات، وهو اليوم من أعمال الخمسينات المنسية
التي لا تُعدّ ولا تُحصى. لعبت فيروز في هذه المغناة دور الصبية ليلى،
وسألت أباها الذي "أهوى به الهرم":
"ماذا نحن يا أبتي ماذا نحن
أغراب/ أليس لنا بهذا الكون صحاب وأحباب/ أليس لنا أخلاء أليس لنا أحباء/
لماذا نحن يا أبتي لماذا نحن أغراب".
استرسلت ليلى في الكلام، وسألت عن
أرضها الخضراء التي أمست بعيدة، عن أمّها التي "ذهبت ولم ترجع"، عن أخيها
أحمد الذي استشهد، عن سلوى التي "بدّلها السقم". ظلّ والدها الشيخ غارقا
في صمته، فألحّت ابنته في السؤال وغنّت:
"أبي قلْ لي بحق الله هل نأتي
إلى يافا/ فإن خيالها المحبوب في عينيّ قد طافَ/ أندخلها أعزاء برغم الدهر
أشرافا/ أأدخل غرفتي قل لي، أأدخلها بأحلامي/ وألقاها وتلقاني وتسمع وقع
أقدامي/ أأدخلها بهذا القلب هذا المدنف الظامي/ أبي لو أن لي كالطير أجنحة
لتحملني/ لطرت بلهفة رعناء من شوق إلى وطني/ ولكني من الأرض تظل الأرض
تجذبني".
أجاب الأب أخيرا، وسمعنا صوت محمد الطوخي وهو يعد ابنته بالعودة:
"سوف
نرجعه سنرجع ذلك الوطن/ فلن نرضى له بدلا ولن نرضى ثمنا/ ولن يقتلنا جوع
ولن يرهقنا فقر/ لنا أمل سيدفعنا إذا ما لوّح الثأر/ فصبراً يا ابنتي
صبراً غداة غد لنا النصر".
الخيّر الأردن
ترافق
صدور التسجيل الثاني لـ"راجعون" في بيروت مع أغان قصيرة عُرفت بـ"أغاني
العودة"، وهي "عند حماها"، "بعدنا من يقطف الكروم"، "بلدتي غابة جميلة"،
"يا ربوع بلادي"، و"سنرجع". إلى جانب هذه الأعمال المتداولة تجارياً اليوم
على اسطوانات ممغنطة، تحضر أعمال دخلت دائرة النسيان، منها "يا ليل
بلادي"، ومغناة "في أرض الجنّات" التي تضاهي "راجعون" سحرا وجمالا. استمر
الرحبانيان في التغنّي بفلسطين وقدّما في نهاية الخمسينات عملاً فذاً
يتألف من فواصل عدة، وهذا العمل لم يُطبع إلى اليوم، والذين يعرفونه قلّة
من غلاة الفيروزيين.
قدّمت فيروز هذا العمل مع الجوقة على مسرح معرض
دمشق الدولي عام 1959 كما سجّلته في الإذاعة، ولا ندري أيهما الأول، أهو
التسجيل الحي، أم تسجيل الأستوديو. في دمشق، افتُتحت المغناة بقصيدة جميلة
جاء في مطلعها: "عن بلاد من غيم، عن موطن الزرقة يعلو حتى حدود المحال"،
بعدها غنّت فيروز مع الجوقة: "عيد عيد أرضنا عيد أرضنا خصب وعناقيد/ تهلّ
غصون وتعلو تضيء وعودٌ وتحلو/ يد في التلال تهزّ الدوالي تلمّ قطاف
الجمال/ ومواعيد بأناشيد القلوب تلهو وتعيد"، ثم تغنّي منفردة:
"بلادي أغنية العصافير وزهرة الأزاهير، تلال الرياح الشوادي
بلادي مطارح المجدّين بالشمس والمغنين، صباح الجنى والحصاد
أنا قصيدة ورد وغنوة مجد ملء روابيها
أنا وجيعة قلب وزهرة درب على ملاهيها".
دخل الكورس من جديد، وغنّى:
"بيّارتنا زرعناها مدّ العين فرشناها، سيّجناها حميناها بيّارتنا زرعناها". وأجابت فيروز بصوتها الآسر:
"في
البال بيّارة تلوح وراء الروابي، كمن هي في ضباب، وأشجارها ذكية/ يهاجر
منها يمام، يجيء يرفّ علينا، يقول حنّت إلينا ويبكي ويهدي السلام/ سنرجع
كل التراب، ونهدم تلك الضبابة، ويوم نعود ونحيا، نغني على كل دنيا/
بيّارتنا زرعناها، مدّ العين فرشناها، سيّجناها حميناها، بيّارتنا
زرعناها".
في تسجيل الأستوديو، غابت قصيدة "عن جبال من غيم"، وحلّت مكانها افتتاحية استعادتها فيروز في خاتمة المغناة، وفيها:
"أنا والمساء وسراجي ونهرنا الأردن يروي سياجي
أنا والمساء على بابي والخيّر الأردن يسقي ترابي".
حصاد ورماح
عام
1963، احيت فيروز حفلاً من المنوعات في الأردن، تخللته مغناة فلسطينية
عنوانها "حصاد ورماح". لا نعرف تسجيلا إذاعيا لهذه المغناة، ولم يُطبع
التسجيل الحي إلى اليوم، وهو من الأعمال المجهولة. بعد المقدّمة
الموسيقية، غنّت الجوقة:
"قصّتنا الحصاد والسهر والقمح والرياح والرماح
فساعدٌ يستنبت الثمر وساعدٌ يشرِّع السلاح
قصّتنا الأبطال والزيتون وقرية تضحك للسماء
تحرس خطّ الشوك والفداء
أطفالها في الشمس يلعبون في المجد يلعبون للحبّ كالجنون".
ثم دخلت فيروز، وأدّت منفردة أجمل وصلات المغناة وأرفعها:
"أغنيتي
إليك أغنية الطريق في المغيب، يا فرح الحصاد يا حبيبي، عتِبْتُ من تلهّفٍ
عليك/ أغنيتي إليك أشرعةٌ بيضاء كالطفولة حاملةً قصائدي الخجولة، تبحر من
قلبي إلى عينيك/ سألتَ عن حبيبي رأيتُ وجهه، يأتي من الغبار كالريح
كالإعصار/ سمعتُه حبيبي ينشد في العراء، لتنضج الكروم ليُخصب العطاء/
لمحتُه حبيبي عند شريط الشوك والفداء، مهلّلاً في ساعة الفداء/ أغنيتي
إليك، على ذرى القدس أنا أصلّي/ يا ربّي تذكر وطني وأهلي، وأدمعي تذْكرني
لديك".
تأخذ المغناة طابعا روائيا. استعدّ شقيق فيروز في المغناة
للرحيل عن الأرض، وأدّى دوره جوزف عازار. خاطبته المجموعة وحاولت اقناعه
بالعدول عن السفر. ضمّت فيروز صوتها الى المجموعة وقالت لأخيها: "لا فما
من وداع، ما أنت إلاّ شراع، جُنّت رياحٌ فضاع"، فأجابها: "كورق التين
تساقطت أيّامنا، كالزهر الحزين تناثرت أحلامنا، فماذا لنا هنا؟". بعد أخذ
وردّ، عدل الأخ عن الرحيل، وقرر البقاء في أرضه، وقال: "أبي والطفولة هنا
بالأمان يرقدان، أهجرها الأرض فيشردان بلا مكان، كالريح كالدخان كزهر
الشوك على الطريق يشردان". يأخذ المعول بيد، والسلاح باليد الأخرى، وأنشد:
"رجعتُ يا أرضي، لأزرع الزيتون والرماح". غنّت فيروز مع المجموعة في
الخاتمة:
"الغناء ملء الليالي والرجاء ملء الصدور
والطريق نحو المعالي كم يطيب فيه العبور
ونحن بالبنيان ننهر من عجلون
ننهر من فيحان من جبل الزيتون
والقدس ومن عمّان في جبهة الشمس لنا مكان
والأردن يسير على المدى يسير
ولمَوْرِهِ ينتسب الهدير والدهور
يسير يروي السهل والحنايا، يغسل أجيالاً من الخطايا
وفي قرار الماء وجوه أنبياء ينحتها الحنين للسماء
والأردن يسير على المدى يسير وضفّتاه تُـعليان المجد والعمران
ونحن كالنسور فوق المرتجى نطير نطير في الزمان
جناح عنفوان، ففي رؤى الشمس لنا مكان".
الموضوع منقول
يتبع....
محمود الزيباوي
من
النكبة الأولى في عام 1948، إلى يومنا هذا، ستّون عاما مضت. كثيرون غنّوا
فلسطين في الأمس، وكثيرون يغنّونها اليوم، غير أن أحدا لم يغنِّها كما
غنّتها فيروز. كانت البداية مغناة "راجعون" في منتصف الخمسينات، وتبعتها
أعمال عديدة حتى مطلع السبعينات. بعضها بات من الكلاسيكيات، وبعضها الآخر
ينتظر من يعيد اكتشافه.
عام 1955، دعت إذاعة "صوت العرب" فيروز
والأخوين عاصي ومنصور الرحباني الى تسجيل مجموعة من الأعمال الغنائية في
القاهرة. بحسب الرواية المتداولة، طلب مدير الإذاعة أحمد سعيد من
الرحبانيين إنجاز عمل خاص بالقضية الفلسطينية، فكانت مغناة "راجعون".
سُجّل العمل في القاهرة بمشاركة كارم محمود الذي أدّى فيه وصلتين جميلتين،
وأُعيد تسجيله في بيروت بعد عام أو عامين، مع بعض التعديلات في النص. لم
يُطبَع التسجيل الأول على اسطوانة، وهو اليوم من الأعمال المنسية غير
المتداولة تجارياً. أمّا التسجيل الثاني، فصدر في عام 1957 على اسطوانة 33
دورة من الحجم المتوسط ضمّت على الوجه الثاني أربع أغانٍ قصيرة، وصدر بعد
فترة منفرداً على اسطوانة 45 دورة من إنتاج "فيليبس". دخل العمل دائرة
النسيان في الستينات، ولم يصدر على اسطوانة، إلى أن أعادت "شركة شاهين"
إطلاقه في "سي دي" حمل عنوانه، ضمّ أغاني اسطوانة عام 1957 وأغاني مغناة
"جسر العودة" التي تعود إلى نهاية الستينات.
في نسخة "راجعون" الأولى،
أنشد كارم محمود في مقدمة المغناة قبل دخول فيروز: "وتلك السطوح يحطّ
عليها الحمام، أبَعد النزوح تُراها تذوق السلام". وفي نسخة بيروت، غنّى
ميشال بريدي على لحن مغاير: "يا غريب الديار نسيم الجنوب، ضلّ فيك المزار
غداة الهبوب". في كلا النسختين، أنشد الكورس بعد هذا المدخل: "نحن من
الأرض الخضيبة نحن من الأرض السليبة فهل ترى بعد الليالي نزورها تلك
الحبيبة". بعد هذا القول، نجد اختلافا بين النسختين. في تسجيل القاهرة،
غنّى كارم محمود: "مقدس حبّ ثراها، مرابط الوحي سماها، أصبحت اليوم خرابا،
تشتاق للعدل رباها". أما في نسخة بيروت، فأنشدت فيروز كلمات آسرة لا أثر
لها في نسخة القاهرة:
"في البال تحيا دروبها السمر سطوحها الحمر في
البال زهر التلال/ في البال دنيا ترابها الشمس، الحب والقدس في البال رغم
المحال/ وليلة لا جمال فارقها الجمال العدل زال واسودّ لون الظلال".
فأجاب الكورس: "ولم تزل في البال شوق البال دار التلال".
باقي
المغناة شبه متطابق في النسختين، مع اختلاف بسيط في بعض الكلمات. في نسخة
القاهرة، كرر الكورس في مطلع الخاتمة: "في الليلات من الفلوات يثور نشيد
في الإعصار وفي الأمطار صداه يعيد"، ثم صدحت فيروز مرتين مع الجوقة:
الكورس: "في الأمطار راجعون في الإعصار راجعون"
فيروز: "في الرمال والتلال في الشموس والظلال"
الكورس: "في الإيمان راجعون للأوطان راجعون"
فيروز: "في الصباح في الرياح في السهول والبطاح"
الكورس: "في الأمطار راجعون".
في المقابل، غاب صوت فيروز عن خاتمة نسخة بيروت حيث غنّى الكورس:
"في
هدأة السكون في رهبة الحصون أصحابنا على الطريق الرحب يهتفون/ في الأمطار
راجعون في الإعصار راجعون/ في الشموس والرياح في الحقول والبطاح/ في
الإيمان راجعون للأوطان راجعون/ في الرمال والظلال في الشعاب والتلال/
راجعون راجعون راجعون".
غرباء
سجّلت فيروز في القاهرة
مغناة ثانية خاصة بفلسطين، وضع كلماتها الشاعر هارون هاشم رشيد، عنوانها
"غرباء". لم يُطبع هذا العمل على اسطوانة، غير أن إذاعات القاهرة ودمشق
دأبت على إذاعته حتى السبعينات، وهو اليوم من أعمال الخمسينات المنسية
التي لا تُعدّ ولا تُحصى. لعبت فيروز في هذه المغناة دور الصبية ليلى،
وسألت أباها الذي "أهوى به الهرم":
"ماذا نحن يا أبتي ماذا نحن
أغراب/ أليس لنا بهذا الكون صحاب وأحباب/ أليس لنا أخلاء أليس لنا أحباء/
لماذا نحن يا أبتي لماذا نحن أغراب".
استرسلت ليلى في الكلام، وسألت عن
أرضها الخضراء التي أمست بعيدة، عن أمّها التي "ذهبت ولم ترجع"، عن أخيها
أحمد الذي استشهد، عن سلوى التي "بدّلها السقم". ظلّ والدها الشيخ غارقا
في صمته، فألحّت ابنته في السؤال وغنّت:
"أبي قلْ لي بحق الله هل نأتي
إلى يافا/ فإن خيالها المحبوب في عينيّ قد طافَ/ أندخلها أعزاء برغم الدهر
أشرافا/ أأدخل غرفتي قل لي، أأدخلها بأحلامي/ وألقاها وتلقاني وتسمع وقع
أقدامي/ أأدخلها بهذا القلب هذا المدنف الظامي/ أبي لو أن لي كالطير أجنحة
لتحملني/ لطرت بلهفة رعناء من شوق إلى وطني/ ولكني من الأرض تظل الأرض
تجذبني".
أجاب الأب أخيرا، وسمعنا صوت محمد الطوخي وهو يعد ابنته بالعودة:
"سوف
نرجعه سنرجع ذلك الوطن/ فلن نرضى له بدلا ولن نرضى ثمنا/ ولن يقتلنا جوع
ولن يرهقنا فقر/ لنا أمل سيدفعنا إذا ما لوّح الثأر/ فصبراً يا ابنتي
صبراً غداة غد لنا النصر".
الخيّر الأردن
ترافق
صدور التسجيل الثاني لـ"راجعون" في بيروت مع أغان قصيرة عُرفت بـ"أغاني
العودة"، وهي "عند حماها"، "بعدنا من يقطف الكروم"، "بلدتي غابة جميلة"،
"يا ربوع بلادي"، و"سنرجع". إلى جانب هذه الأعمال المتداولة تجارياً اليوم
على اسطوانات ممغنطة، تحضر أعمال دخلت دائرة النسيان، منها "يا ليل
بلادي"، ومغناة "في أرض الجنّات" التي تضاهي "راجعون" سحرا وجمالا. استمر
الرحبانيان في التغنّي بفلسطين وقدّما في نهاية الخمسينات عملاً فذاً
يتألف من فواصل عدة، وهذا العمل لم يُطبع إلى اليوم، والذين يعرفونه قلّة
من غلاة الفيروزيين.
قدّمت فيروز هذا العمل مع الجوقة على مسرح معرض
دمشق الدولي عام 1959 كما سجّلته في الإذاعة، ولا ندري أيهما الأول، أهو
التسجيل الحي، أم تسجيل الأستوديو. في دمشق، افتُتحت المغناة بقصيدة جميلة
جاء في مطلعها: "عن بلاد من غيم، عن موطن الزرقة يعلو حتى حدود المحال"،
بعدها غنّت فيروز مع الجوقة: "عيد عيد أرضنا عيد أرضنا خصب وعناقيد/ تهلّ
غصون وتعلو تضيء وعودٌ وتحلو/ يد في التلال تهزّ الدوالي تلمّ قطاف
الجمال/ ومواعيد بأناشيد القلوب تلهو وتعيد"، ثم تغنّي منفردة:
"بلادي أغنية العصافير وزهرة الأزاهير، تلال الرياح الشوادي
بلادي مطارح المجدّين بالشمس والمغنين، صباح الجنى والحصاد
أنا قصيدة ورد وغنوة مجد ملء روابيها
أنا وجيعة قلب وزهرة درب على ملاهيها".
دخل الكورس من جديد، وغنّى:
"بيّارتنا زرعناها مدّ العين فرشناها، سيّجناها حميناها بيّارتنا زرعناها". وأجابت فيروز بصوتها الآسر:
"في
البال بيّارة تلوح وراء الروابي، كمن هي في ضباب، وأشجارها ذكية/ يهاجر
منها يمام، يجيء يرفّ علينا، يقول حنّت إلينا ويبكي ويهدي السلام/ سنرجع
كل التراب، ونهدم تلك الضبابة، ويوم نعود ونحيا، نغني على كل دنيا/
بيّارتنا زرعناها، مدّ العين فرشناها، سيّجناها حميناها، بيّارتنا
زرعناها".
في تسجيل الأستوديو، غابت قصيدة "عن جبال من غيم"، وحلّت مكانها افتتاحية استعادتها فيروز في خاتمة المغناة، وفيها:
"أنا والمساء وسراجي ونهرنا الأردن يروي سياجي
أنا والمساء على بابي والخيّر الأردن يسقي ترابي".
حصاد ورماح
عام
1963، احيت فيروز حفلاً من المنوعات في الأردن، تخللته مغناة فلسطينية
عنوانها "حصاد ورماح". لا نعرف تسجيلا إذاعيا لهذه المغناة، ولم يُطبع
التسجيل الحي إلى اليوم، وهو من الأعمال المجهولة. بعد المقدّمة
الموسيقية، غنّت الجوقة:
"قصّتنا الحصاد والسهر والقمح والرياح والرماح
فساعدٌ يستنبت الثمر وساعدٌ يشرِّع السلاح
قصّتنا الأبطال والزيتون وقرية تضحك للسماء
تحرس خطّ الشوك والفداء
أطفالها في الشمس يلعبون في المجد يلعبون للحبّ كالجنون".
ثم دخلت فيروز، وأدّت منفردة أجمل وصلات المغناة وأرفعها:
"أغنيتي
إليك أغنية الطريق في المغيب، يا فرح الحصاد يا حبيبي، عتِبْتُ من تلهّفٍ
عليك/ أغنيتي إليك أشرعةٌ بيضاء كالطفولة حاملةً قصائدي الخجولة، تبحر من
قلبي إلى عينيك/ سألتَ عن حبيبي رأيتُ وجهه، يأتي من الغبار كالريح
كالإعصار/ سمعتُه حبيبي ينشد في العراء، لتنضج الكروم ليُخصب العطاء/
لمحتُه حبيبي عند شريط الشوك والفداء، مهلّلاً في ساعة الفداء/ أغنيتي
إليك، على ذرى القدس أنا أصلّي/ يا ربّي تذكر وطني وأهلي، وأدمعي تذْكرني
لديك".
تأخذ المغناة طابعا روائيا. استعدّ شقيق فيروز في المغناة
للرحيل عن الأرض، وأدّى دوره جوزف عازار. خاطبته المجموعة وحاولت اقناعه
بالعدول عن السفر. ضمّت فيروز صوتها الى المجموعة وقالت لأخيها: "لا فما
من وداع، ما أنت إلاّ شراع، جُنّت رياحٌ فضاع"، فأجابها: "كورق التين
تساقطت أيّامنا، كالزهر الحزين تناثرت أحلامنا، فماذا لنا هنا؟". بعد أخذ
وردّ، عدل الأخ عن الرحيل، وقرر البقاء في أرضه، وقال: "أبي والطفولة هنا
بالأمان يرقدان، أهجرها الأرض فيشردان بلا مكان، كالريح كالدخان كزهر
الشوك على الطريق يشردان". يأخذ المعول بيد، والسلاح باليد الأخرى، وأنشد:
"رجعتُ يا أرضي، لأزرع الزيتون والرماح". غنّت فيروز مع المجموعة في
الخاتمة:
"الغناء ملء الليالي والرجاء ملء الصدور
والطريق نحو المعالي كم يطيب فيه العبور
ونحن بالبنيان ننهر من عجلون
ننهر من فيحان من جبل الزيتون
والقدس ومن عمّان في جبهة الشمس لنا مكان
والأردن يسير على المدى يسير
ولمَوْرِهِ ينتسب الهدير والدهور
يسير يروي السهل والحنايا، يغسل أجيالاً من الخطايا
وفي قرار الماء وجوه أنبياء ينحتها الحنين للسماء
والأردن يسير على المدى يسير وضفّتاه تُـعليان المجد والعمران
ونحن كالنسور فوق المرتجى نطير نطير في الزمان
جناح عنفوان، ففي رؤى الشمس لنا مكان".
الموضوع منقول
يتبع....