وعد التوراة؛ من أبرام إلى هرتزل
الكاتب موسى مطلق ابراهيم
تاريخ النشر 01/01/2001
موسى مطلق ابراهيم
من أهم أعماله
وعد التوراة؛ من أبرام إلى هرتزل
شعب ((وهي قريته ))
الكتاب هام جداً لكل مهتم وجاد ويتمنى أن يعرف ويكشف بعض الحقائق عن التوراة ووعده
يقول. إذ أن قبائل بدوية لم تأخذ بطرف ثقافة ولا بأسباب التمدن مدفوعة بالعصبية القبلية المتخلفة تخضع لنظام رعائي أولي قيض لها أن تستجمع قواها قبيل عام 1030ق.م، فكونت كياناً هزيلاً متصدعاً معزولاً في المرتفعات العليا من أرض فلسطين لم يعمر أكثر من ثمانين عاماً تناوب على حكمه داود وسليمان، وما لبث أن تصدع وهوى على نفسه إلى أن سبى الآشوريون والبابليون إلى بابل سكانه. إن كياناً من هذا النوع لم يكن ممكناً له العودة بعد ما يربو على ثلاثة آلاف عام وتأسيس دولة عسكرية في فلسطين تقوم على الاغتصاب والقتل والتدمير والتوسع لولا الغزو الثقافي الديني للفكر المسيحي الذي مهد لانطلاق هذه الموجة البربرية الجديدة.
في "وعد التوراة من أبرام إلى هرتزل" يظهر الأمين إبراهيم أن هناك وعوداً عدة سوى وعد أبرام لمساحات عدة من الأرض تصغر حتى لا تتجاوز مساحتها مساحة قرية، وتكبر حتى تصل الفرات والنيل. فمن وعود لإبرام ووعود لموسى ووعود ليشوع، نجد التفاوت الكبير في وعود يهوه في القياس وفي المواقع، ما يدل على أن تلك الوعود عكست حال ووضع كتاب التوراة أنفسهم على مر السنين، وأن ليس في تلك الوعود من الإلهية شيء. وفي مناقشته للوعد الذي أعطى لإبرام يعرض الكاتب إبراهيم لترحال أبرام من أور الكلدانيين إلى أرض كنعان الذي أحسن سيدها أبيمالك وفادته، واستقبله وأعاد إليه زوجته سارة التي ادعى زوراً أنها أخته، ما جعل أبيمالك يؤنبه على فعلته، ثم أهداه غنماً وبقراً وإماء، حتى إذا ماتت سارة طلب أبرام من بني حث أن يعطوه ملك قبر ليدفنها فوهبوه حقلاً بكامله..
ولما شاخ أبرام وجدناه يستحلف عبده أن لا يتخذ لابنه (ابن أبرام) زوجة من هؤلاء الكنعانيين "الذين أنا ساكن بينهم". واستمرت هذه النفسية فاعلة في ذرية أبرام، إسحق ويعقوب، لتشير إلى أن هذا الوعد يقوم في أساسه على البطل ونكران الوفاء، وطعن من أكرمك، والاستيلاء على ملك من أحسن وفادتك. ثم يعرض إلى مناقشة سفر التكوين الذي تتضح منه روح العداء للكنعانيين (ملعون كنعان... الخ) من دون ذنب، ولا مبرر لذلك إلا ليكون هناك مسوغ لوعد هو أصلاً من صنع كتاب التوراة، حتى أن مهمة أبرام نفسه هي من صنعهم أيضاً. وما أ، انتهت مهمة تعريفه بالأرض التي سيعد الرب بها حتى يوكل لجانب من التوراة مهمة ثانية هي "تعريفه بنسله وبتاريخهم لأربعمائة سنة مقبلة...".
وفي توصيفة لإبرام وتأريخيته نجد الكاتب يكتشف بما لا يقبل الشك أن عهد أبرام هو عهد السومريين لا الكلدانيين المتأخر عنهم بألف ومائتي عام، وأن أبرام هو شخصية "مقدسة في ميثولوجيا بلاد الرافدين..."، وأن استعمال هذه الشخصية كان لغرضين "الأول الوعد لنسلها (الشخصية المقدسة)، والثاني التعريف بنسلها في التاريخ الذي اصطنعه لهم في سفر التكوين.. فيضفي بها على الأول قدسية الملكية وعلة الثاني قدسية الميراث والوارثين...". عندها تنتهي مهمة أبرام عند كتاب التوراة، ولا بأس بعدها أن يهيم في الأرض "بدوياً مترحلاً غريباً من مكان إلى آخر في الأرض الموعودة بلا رسالة وبلا هدف وبلا محمولاته النفسية، فأساؤا إليه بهذه الصورة المشوهة الممسوخة ولم يعوضه عن كل هذا الاستخدام البشع غير جعله يموت بشيبة صالحة.
ويتابع الكاتب رحلته في سفر التكوين فيبين التناقضات التاريخية لمرويات التوراة، ويناقش ما ورد في الإصحاح السادس والعشرين: و"تغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياماً كثيرة"، فيرد قائلاً: "الفلسطينيون هم هجرة من شعوب البحر استقرت على السواحل... في القرن الثالث عشر ق.م". بينما "هجرة أبرام إلى أرض كنعان هي في القرن الثامن عشر ق.م". ومثال آخر لهذا التناقض هو ما جاء في الحديث عن ترحل إبراهيم في أرض كنعان: "ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته". فيعلق الكاتب على ذلك بقوله: "الأمر الذي يفيد أن بيت إيل موجودة من قبل أن يأتي إبراهيم إلى أرض كنعان ولكننا ما نلبث حتى نقرأ لكاتب آخر في الإصحاح الثامن والعشرين أن يعقوب حفيد إبراهيم هو الذي أطلق اسم بيت إيل على المدينة وكان اسمها لوز". ومثل هذه التناقضات كثيرة جداً قلما حللها وبينها مؤرخ بهذه الدقة التاريخية والمنطقية. وكما استعان كتاب التوراة بإبرام، الشخصية المبثولوجية السورية الراقية، ليضعوا ليهود الشتات تاريخاً، كذلك انتحلوا اسم الإله الكنعاني إيل فتحول إلى يهوه "فيعد رجلاً بدوياً بأرضهم (الكنعانيين) التي أقاموا عليها حضارتهم المتفوقة... هذه الأرض التي جعلوها تفيض لبناً وعسلاً ميراثاً أبدياً لنسله من سلالة البدو الرحل.
ويتابع الكاتب جولته فيأتي على مناقشة سفر الخروج فيظهر، بالقرينة والبينة، لا منطقية قصة موسى وأسباب الخروج وأعداد الخارجين، وذلك ليس طبقاً لآراء خاصة عنده، بل طبقاً لما جاء في التوراة نفسها، ليخلص إلى أن هذا التناقض الحاد في هذا المقطع من الحكاية لا يخرجها من دائرة المنطق فحسب بل ويخرجها من دائرة التسلية أيضاً". وبعدها يتابع الكاتب إبراهيم عمله ليعيد الحكاية إلى أصلها الحقيقي، فهي حكاية الملك سرجون الأول الأكادي ووقائعها جرت "في جنوب العراق في تاريخ سابق على التاريخ المصطنع لموسى التوراتي بأكثر من ألف ومائتي عام...". وبناء عليه فإن "حقيقة موسى التوراتي عرفناها كما عرفنا من قبل حقيقة أبرام وإسحاق ويعقوب وإسرائيل على أنها من حقائق التوراة الوهمية اقتبستها من أصولها السورية وعملت على وضعها في خدمة عنصريتها العدوانية ضد السوريين في تاريخ متأخر جداً...".
والكاتب لا يستبق الأمور، فهو يجاري كتاب التوراة في سردهم، فيسير معهم إلى أن يظهر تناقض أقوالهم وعدم انطباق جغرافية وتاريخية الرواية على جغرافية وتاريخية الواقع المادي، فيسقط بذاك التزوير والزيف في معركة فكرية سلاحها العقل والعلم والقرائن من جهة والمخاتلة والتزوير والتحريف والتناقض من جهة ثانية.
وبعد تفنيد أوجه التناقض وتبيان التخلخل المنطقي والتاريخي والجغرافي لمفاصل أساسية -وما أكثرها- في التوراة، يصل الكاتب في مواجهة السؤال الأساسي البسيط: هل إسرائيل التاريخية حقيقية أم خيال؟ وبعد كل القرائن التي أوردها في كتابه القيم بما فيها ما أماطت عنه اللثام مكتشفات مدينة "أيبلا" وإحدى لوحات المتحف المصري، يخلص الكاتب المؤلف إلى القول أن التزوير الإسرائيلي وانتحال الأسماء السورية القديمة وكذلك الآلهة السورية وتحوير تلك الأسماء وتحويل أغراض ورسائل تلك الآلهة لتمسي أشخاصاً يهودية أو عبرانية وتصبح أغراضها خاصة بشعب خاص دون سواه بل لتمسي تلك الآلهة عدوة للشعوب السورية حاقدة عليها لاغية لوجودها. كل ذلك استتبع أيضاً انتحال اسم "إسرائيل" التاريخية الكنعانية الضاربة في القدم رجوعاً إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ما جعل محترفي التزوير والانتحال من كتاب التوراة يلفقون ما لفقوه حتى يدخلوا أرض كنعان بتلك "الهوية المزورة" ويرتدوا عباءة إسرائيل الكنعانية التاريخية.
بهذا الكتاب القيم لا يكتفي الكاتب إبراهيم بالقول إن هناك تزويراً بل يلاحق المزورين أينما ذهبوا من بابل إلى أرض كنعان إلى مصر، ثم يعود مقتفياً أثرهم إلى أن يعتقلهم ويأتي بهم إلى المحاكمة. هكذا نعلم أن عزرا "الكاتب الماهر بشريعة موسى..." يقف على رأس عصابة التزوير، وهو من رسم خريطة تحركاتها في الدخول و"الخروج" وأمدها بمواد التلفيق. ليس هذا فحسب بل إن هذا "الكاتب الماهر" يقوم بعملية غسل دماغ للآلاف من اليهود الذين كادوا أن يندمجوا بالسكان الأصليين فيدعي أن شريعة موسى تحرم اندماجهم، وأنه عالم بالشريعة، ويستعين بمزور آخر هو نحميا ليقتلعا أي إمكانية للاندماج، فيحرمان باسم يهوه وموسى زواج أي يهودي مع أي من "شعوب الأرض"، بل يريان إلغاء أي زواج قائم بل وتعطيل أي اتصال ثقافي بين اليهود والشعوب السورية.
ولا يكتفي الكاتب بملاحقة التزوير التاريخي والديني في التوراة بل ويلاحق التأريخ الذي اعتمد على التوراة كمرجع نهائي لرسم الصورة التاريخية والجغرافية لمناطق آشور وبابل ومصر، فيناقش ادعاء مملكة داود وسليمان، فيأخذ بها تحليلاً وتفنيداً تارة من فمها (استناداً إلى التوراة نفسها) وطوراً واستناداً إلى التآريخ المصري والآشوية والبابلية ليبين بما لا يقبل الشك أن هذه "المملكة الفجائية" هي واحدة من إسقاطات التزوير التي ابتدعها الخيال التوراتي واستطاع (الخيال المزور) أن يجعل منها معلماً تاريخياً ومرجعاً تعرف على أساسه حقبة من حقبات التاريخ المصري، الآشوري، البابلي.
ويتناول الكاتب أيضاً الحالة الاجتماعية لليهود بعد السبي والجانب السياسي المحايث لوجودهم والمستفيد من كونهم ما هم. ويبين استناداً إلى إقرار التوراة نفسها أن دورة الحياة البابلية في سورية كانت من الزخم والحيوية ما كاد يذيب اليهود المنفيين إلى بابل ويصهر البقية الباقية منهم في أورشليم.
ويعرج الكاتب على دول الخزر الذين اعتنقوا اليهودية بسبب تعويم التوراة، ذلك التعويم الذي نشاهده ونسمعه ونلمسه في كنائسنا وجومعنا. والخزر أضحوا يهود الشتات في أوروبا الشرقية وقسم من آسيا وشكلوا أحد أهم روافد الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ولم يعرف هؤلاء الخزر لا هم ولا آباؤهم ولا أجدادهم فلسطين أساساً، لكن تعويم التوراة، مضافاً إليه الانحطاط الثقافي عند بعض المسيحيين والمحمديين، أسهما في اعتناقهم اليهودية.
ويطرح الكاتب مسألة علمية وفلسفية مهمة حين يتساءل عن سبب انتشار الدين اليهودي في بلاد الثقافة اليونانية وهي على ما هي عليه من تراث فلسفي متفوق مرتكز على العقل والمنطق، وهو على ما هو عليه من أساطير وخرافات هشة مجافية للعقل والمنطق...". وعلى عادته، يغوص في التاريخ إلى أعماقه ليعود بالدر الثمين، ويقدم لنا الإجابة التي تمثلت في اعتماد الفيلسوف اليهودي فيلون الأسكندري على تطعيم اليهودية بالفلسفة الرواقية وشرحها على أساس أنها ديانة كونية، وأن الله هو رب العالمين، وأنه يمكن لليهودي أن يكون يهودياً أينما كان، دونما حاجة إلى أرض ميعاد معينة، الأمر الذي جعل اليهودية ديانة مقبولة ومعقولة بالنسبة لمدى الفلسفة اليونانية الحيوي.
اعتذر على الإطالة ولكن تمنيت لو اقرأ الكتاب كله لكم
الكاتب موسى مطلق ابراهيم
تاريخ النشر 01/01/2001
موسى مطلق ابراهيم
من أهم أعماله
وعد التوراة؛ من أبرام إلى هرتزل
شعب ((وهي قريته ))
الكتاب هام جداً لكل مهتم وجاد ويتمنى أن يعرف ويكشف بعض الحقائق عن التوراة ووعده
يقول. إذ أن قبائل بدوية لم تأخذ بطرف ثقافة ولا بأسباب التمدن مدفوعة بالعصبية القبلية المتخلفة تخضع لنظام رعائي أولي قيض لها أن تستجمع قواها قبيل عام 1030ق.م، فكونت كياناً هزيلاً متصدعاً معزولاً في المرتفعات العليا من أرض فلسطين لم يعمر أكثر من ثمانين عاماً تناوب على حكمه داود وسليمان، وما لبث أن تصدع وهوى على نفسه إلى أن سبى الآشوريون والبابليون إلى بابل سكانه. إن كياناً من هذا النوع لم يكن ممكناً له العودة بعد ما يربو على ثلاثة آلاف عام وتأسيس دولة عسكرية في فلسطين تقوم على الاغتصاب والقتل والتدمير والتوسع لولا الغزو الثقافي الديني للفكر المسيحي الذي مهد لانطلاق هذه الموجة البربرية الجديدة.
في "وعد التوراة من أبرام إلى هرتزل" يظهر الأمين إبراهيم أن هناك وعوداً عدة سوى وعد أبرام لمساحات عدة من الأرض تصغر حتى لا تتجاوز مساحتها مساحة قرية، وتكبر حتى تصل الفرات والنيل. فمن وعود لإبرام ووعود لموسى ووعود ليشوع، نجد التفاوت الكبير في وعود يهوه في القياس وفي المواقع، ما يدل على أن تلك الوعود عكست حال ووضع كتاب التوراة أنفسهم على مر السنين، وأن ليس في تلك الوعود من الإلهية شيء. وفي مناقشته للوعد الذي أعطى لإبرام يعرض الكاتب إبراهيم لترحال أبرام من أور الكلدانيين إلى أرض كنعان الذي أحسن سيدها أبيمالك وفادته، واستقبله وأعاد إليه زوجته سارة التي ادعى زوراً أنها أخته، ما جعل أبيمالك يؤنبه على فعلته، ثم أهداه غنماً وبقراً وإماء، حتى إذا ماتت سارة طلب أبرام من بني حث أن يعطوه ملك قبر ليدفنها فوهبوه حقلاً بكامله..
ولما شاخ أبرام وجدناه يستحلف عبده أن لا يتخذ لابنه (ابن أبرام) زوجة من هؤلاء الكنعانيين "الذين أنا ساكن بينهم". واستمرت هذه النفسية فاعلة في ذرية أبرام، إسحق ويعقوب، لتشير إلى أن هذا الوعد يقوم في أساسه على البطل ونكران الوفاء، وطعن من أكرمك، والاستيلاء على ملك من أحسن وفادتك. ثم يعرض إلى مناقشة سفر التكوين الذي تتضح منه روح العداء للكنعانيين (ملعون كنعان... الخ) من دون ذنب، ولا مبرر لذلك إلا ليكون هناك مسوغ لوعد هو أصلاً من صنع كتاب التوراة، حتى أن مهمة أبرام نفسه هي من صنعهم أيضاً. وما أ، انتهت مهمة تعريفه بالأرض التي سيعد الرب بها حتى يوكل لجانب من التوراة مهمة ثانية هي "تعريفه بنسله وبتاريخهم لأربعمائة سنة مقبلة...".
وفي توصيفة لإبرام وتأريخيته نجد الكاتب يكتشف بما لا يقبل الشك أن عهد أبرام هو عهد السومريين لا الكلدانيين المتأخر عنهم بألف ومائتي عام، وأن أبرام هو شخصية "مقدسة في ميثولوجيا بلاد الرافدين..."، وأن استعمال هذه الشخصية كان لغرضين "الأول الوعد لنسلها (الشخصية المقدسة)، والثاني التعريف بنسلها في التاريخ الذي اصطنعه لهم في سفر التكوين.. فيضفي بها على الأول قدسية الملكية وعلة الثاني قدسية الميراث والوارثين...". عندها تنتهي مهمة أبرام عند كتاب التوراة، ولا بأس بعدها أن يهيم في الأرض "بدوياً مترحلاً غريباً من مكان إلى آخر في الأرض الموعودة بلا رسالة وبلا هدف وبلا محمولاته النفسية، فأساؤا إليه بهذه الصورة المشوهة الممسوخة ولم يعوضه عن كل هذا الاستخدام البشع غير جعله يموت بشيبة صالحة.
ويتابع الكاتب رحلته في سفر التكوين فيبين التناقضات التاريخية لمرويات التوراة، ويناقش ما ورد في الإصحاح السادس والعشرين: و"تغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياماً كثيرة"، فيرد قائلاً: "الفلسطينيون هم هجرة من شعوب البحر استقرت على السواحل... في القرن الثالث عشر ق.م". بينما "هجرة أبرام إلى أرض كنعان هي في القرن الثامن عشر ق.م". ومثال آخر لهذا التناقض هو ما جاء في الحديث عن ترحل إبراهيم في أرض كنعان: "ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته". فيعلق الكاتب على ذلك بقوله: "الأمر الذي يفيد أن بيت إيل موجودة من قبل أن يأتي إبراهيم إلى أرض كنعان ولكننا ما نلبث حتى نقرأ لكاتب آخر في الإصحاح الثامن والعشرين أن يعقوب حفيد إبراهيم هو الذي أطلق اسم بيت إيل على المدينة وكان اسمها لوز". ومثل هذه التناقضات كثيرة جداً قلما حللها وبينها مؤرخ بهذه الدقة التاريخية والمنطقية. وكما استعان كتاب التوراة بإبرام، الشخصية المبثولوجية السورية الراقية، ليضعوا ليهود الشتات تاريخاً، كذلك انتحلوا اسم الإله الكنعاني إيل فتحول إلى يهوه "فيعد رجلاً بدوياً بأرضهم (الكنعانيين) التي أقاموا عليها حضارتهم المتفوقة... هذه الأرض التي جعلوها تفيض لبناً وعسلاً ميراثاً أبدياً لنسله من سلالة البدو الرحل.
ويتابع الكاتب جولته فيأتي على مناقشة سفر الخروج فيظهر، بالقرينة والبينة، لا منطقية قصة موسى وأسباب الخروج وأعداد الخارجين، وذلك ليس طبقاً لآراء خاصة عنده، بل طبقاً لما جاء في التوراة نفسها، ليخلص إلى أن هذا التناقض الحاد في هذا المقطع من الحكاية لا يخرجها من دائرة المنطق فحسب بل ويخرجها من دائرة التسلية أيضاً". وبعدها يتابع الكاتب إبراهيم عمله ليعيد الحكاية إلى أصلها الحقيقي، فهي حكاية الملك سرجون الأول الأكادي ووقائعها جرت "في جنوب العراق في تاريخ سابق على التاريخ المصطنع لموسى التوراتي بأكثر من ألف ومائتي عام...". وبناء عليه فإن "حقيقة موسى التوراتي عرفناها كما عرفنا من قبل حقيقة أبرام وإسحاق ويعقوب وإسرائيل على أنها من حقائق التوراة الوهمية اقتبستها من أصولها السورية وعملت على وضعها في خدمة عنصريتها العدوانية ضد السوريين في تاريخ متأخر جداً...".
والكاتب لا يستبق الأمور، فهو يجاري كتاب التوراة في سردهم، فيسير معهم إلى أن يظهر تناقض أقوالهم وعدم انطباق جغرافية وتاريخية الرواية على جغرافية وتاريخية الواقع المادي، فيسقط بذاك التزوير والزيف في معركة فكرية سلاحها العقل والعلم والقرائن من جهة والمخاتلة والتزوير والتحريف والتناقض من جهة ثانية.
وبعد تفنيد أوجه التناقض وتبيان التخلخل المنطقي والتاريخي والجغرافي لمفاصل أساسية -وما أكثرها- في التوراة، يصل الكاتب في مواجهة السؤال الأساسي البسيط: هل إسرائيل التاريخية حقيقية أم خيال؟ وبعد كل القرائن التي أوردها في كتابه القيم بما فيها ما أماطت عنه اللثام مكتشفات مدينة "أيبلا" وإحدى لوحات المتحف المصري، يخلص الكاتب المؤلف إلى القول أن التزوير الإسرائيلي وانتحال الأسماء السورية القديمة وكذلك الآلهة السورية وتحوير تلك الأسماء وتحويل أغراض ورسائل تلك الآلهة لتمسي أشخاصاً يهودية أو عبرانية وتصبح أغراضها خاصة بشعب خاص دون سواه بل لتمسي تلك الآلهة عدوة للشعوب السورية حاقدة عليها لاغية لوجودها. كل ذلك استتبع أيضاً انتحال اسم "إسرائيل" التاريخية الكنعانية الضاربة في القدم رجوعاً إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ما جعل محترفي التزوير والانتحال من كتاب التوراة يلفقون ما لفقوه حتى يدخلوا أرض كنعان بتلك "الهوية المزورة" ويرتدوا عباءة إسرائيل الكنعانية التاريخية.
بهذا الكتاب القيم لا يكتفي الكاتب إبراهيم بالقول إن هناك تزويراً بل يلاحق المزورين أينما ذهبوا من بابل إلى أرض كنعان إلى مصر، ثم يعود مقتفياً أثرهم إلى أن يعتقلهم ويأتي بهم إلى المحاكمة. هكذا نعلم أن عزرا "الكاتب الماهر بشريعة موسى..." يقف على رأس عصابة التزوير، وهو من رسم خريطة تحركاتها في الدخول و"الخروج" وأمدها بمواد التلفيق. ليس هذا فحسب بل إن هذا "الكاتب الماهر" يقوم بعملية غسل دماغ للآلاف من اليهود الذين كادوا أن يندمجوا بالسكان الأصليين فيدعي أن شريعة موسى تحرم اندماجهم، وأنه عالم بالشريعة، ويستعين بمزور آخر هو نحميا ليقتلعا أي إمكانية للاندماج، فيحرمان باسم يهوه وموسى زواج أي يهودي مع أي من "شعوب الأرض"، بل يريان إلغاء أي زواج قائم بل وتعطيل أي اتصال ثقافي بين اليهود والشعوب السورية.
ولا يكتفي الكاتب بملاحقة التزوير التاريخي والديني في التوراة بل ويلاحق التأريخ الذي اعتمد على التوراة كمرجع نهائي لرسم الصورة التاريخية والجغرافية لمناطق آشور وبابل ومصر، فيناقش ادعاء مملكة داود وسليمان، فيأخذ بها تحليلاً وتفنيداً تارة من فمها (استناداً إلى التوراة نفسها) وطوراً واستناداً إلى التآريخ المصري والآشوية والبابلية ليبين بما لا يقبل الشك أن هذه "المملكة الفجائية" هي واحدة من إسقاطات التزوير التي ابتدعها الخيال التوراتي واستطاع (الخيال المزور) أن يجعل منها معلماً تاريخياً ومرجعاً تعرف على أساسه حقبة من حقبات التاريخ المصري، الآشوري، البابلي.
ويتناول الكاتب أيضاً الحالة الاجتماعية لليهود بعد السبي والجانب السياسي المحايث لوجودهم والمستفيد من كونهم ما هم. ويبين استناداً إلى إقرار التوراة نفسها أن دورة الحياة البابلية في سورية كانت من الزخم والحيوية ما كاد يذيب اليهود المنفيين إلى بابل ويصهر البقية الباقية منهم في أورشليم.
ويعرج الكاتب على دول الخزر الذين اعتنقوا اليهودية بسبب تعويم التوراة، ذلك التعويم الذي نشاهده ونسمعه ونلمسه في كنائسنا وجومعنا. والخزر أضحوا يهود الشتات في أوروبا الشرقية وقسم من آسيا وشكلوا أحد أهم روافد الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ولم يعرف هؤلاء الخزر لا هم ولا آباؤهم ولا أجدادهم فلسطين أساساً، لكن تعويم التوراة، مضافاً إليه الانحطاط الثقافي عند بعض المسيحيين والمحمديين، أسهما في اعتناقهم اليهودية.
ويطرح الكاتب مسألة علمية وفلسفية مهمة حين يتساءل عن سبب انتشار الدين اليهودي في بلاد الثقافة اليونانية وهي على ما هي عليه من تراث فلسفي متفوق مرتكز على العقل والمنطق، وهو على ما هو عليه من أساطير وخرافات هشة مجافية للعقل والمنطق...". وعلى عادته، يغوص في التاريخ إلى أعماقه ليعود بالدر الثمين، ويقدم لنا الإجابة التي تمثلت في اعتماد الفيلسوف اليهودي فيلون الأسكندري على تطعيم اليهودية بالفلسفة الرواقية وشرحها على أساس أنها ديانة كونية، وأن الله هو رب العالمين، وأنه يمكن لليهودي أن يكون يهودياً أينما كان، دونما حاجة إلى أرض ميعاد معينة، الأمر الذي جعل اليهودية ديانة مقبولة ومعقولة بالنسبة لمدى الفلسفة اليونانية الحيوي.
اعتذر على الإطالة ولكن تمنيت لو اقرأ الكتاب كله لكم