الام فرتر رواية عظيمة للروائي والكاتب المعروف الالماني يوهان غوتة رواية حزينة جدا تنطلق من اسلوب السرد لاحداث على شكل فصقدمت لهذا العمل الأدبي الخالد آلام فرتر بحديث عن مؤلفه العبقري الشاعر والفيلسوف الألماني جوته وطبيعة الحياة التي عاشها, والمكونات الفكرية والثقافية والادبية التي صنعته وصاغته هذه الصياغة الرفيعة, والعلاقات الاجتماعية الواسعة التي عاشها وتدرج خلالها في سلم من الخبرات والتجارب والمواقف, والمغامرات العاطفية العديدة التي اشعلت حياته وكتاباته الروائية والشعرية, وجعلت منه في النهاية أعظم الكتاب الرومانسيين الألمان طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, واعظمهم تأثيرا في الادب الأوروبي والعالمي علي مدار القرن العشرين..
وبقي أن نقترب من الرواية ذاتها, شخصيات واحداثا ومواقف واجواء, محاولين اكتشاف سر العبقرية في صياغتها وبنائها الفني ولغتها الشاعرية المحكمة, لا يزيد عدد ابطال الرواية الرئيسية عن ثلاثة: فرتر وشارلوت والبير ــ الثالوث التقليدي في أية قصة حب شائكة ومرتبكة: الحبيب والحبيبة والزوج.
وشارلوت بطلة الرواية اسم حقيقي في حياة فرتر منتزع من اسم الفتاة الريفية شارلوت بيف التي كانت مخطوبة لشاب موظف في المحكمة, ووقع فرتر في حبها وعاش بسببها حياة مفعمة بالقلق والاكتئاب, فقرر ان يبقي في روايته علي اسمها الحقيقي, بعد أن طغت علي مداركه وسكنت جوارحه, فأصبحت ــ كما يقول الدكتور ياسين الأيوبي, الذي قدم لترجمة الزيات للرواية بدراسة تحليلية ضافية وشروح كثيرة ــ أصبحت الهواء الذي يتنفسه فرتر والنور الذي يبصر والعنصر الوجودي الوحيد الذي يحقق له الحياة, وعندما وصفها في روايته أشار الي أنها ذات وجه ساحر وقوام فارع وهيئة لم يقع بصره علي أتم منها جلالا وروعة, وعندما رآها أول مرة كانت ترتدي ثوبا ساذجا أبيض, تجمله عقد وردية علي ردفيه ومنطقته ويصفها فرتر ــ وهو يراقبها اثناء كلامها مع بعض صواحبها ــ بأنها ذات منطق اخاذ ووجه مشرق متوهج بالفتنة والذكاء, يطفح بالبشر والرضا, وأنها تحب منذ الصغر القصص التي تملأ بها أوقاتها التي ليس لها من الفراغ الا النزر اليسير, ولا تقبل من الكتب الا الذي يشعرها بقيمة وجودها, ويزيد من غبطتها وسعادتها, ويعمق من سمات الاخلاص والصداقة.
ويصف فرتر تأثير جمال حديثها فيه قائلا: بينما كانت تتكلم كنت أنعم بالنظر إلي عينيها الدعجاوين, واشعر أن نفسي تترامي علي شفتيها القرمزيتين, وخدها الاسيل النضر, واعجب الاشياء اني كنت ثملا بسلافة حديثها, معجبا بنبالة معانيها, دون ان اسمع في الغالب الفاظها التي تؤديها, وهي عندما ترقص ترقص بقلبها ونفسها, وتترك جسمها يموج ويميد في انتظام وانسجام وتنساب في حركاتها حرة طليقة, وفي لفتاتها سريعة رشيقة, لا تفكر الا في الرقص ولا تشعر الا به, وأن كل شئ قد فني في خاطرها وناظرها.
ويجيد جوته تصوير الحالة النفسية لبطلة روايته شارلوت وانتزاع ادق الملامح الذاتية التي تتألف منها حياتها المتداخلة المرتبكة حيال رجلين يحومان حولها تحويم الفراش حول مشكاة مضيئة في غلس الظلام, أحدهما ــ وهو زوجها ــ عرفت فيه الوفاء والحب, وأضمرت له الإخلاص والود, ووجدت في اخلاقه المتينة الرضية ضمانا قويا لسعادة امرأة فاضلة, وثانيها ــ وهو فرتر ــ أصبح إليها حبيبا وعليها عزيزا, فوجدت أن نفسيهما تآلفتا منذ تعارفتا, وأن عشرتهما المستمرة ومودتهما المتبادلة وعواطفهما المتجددة قد تركت في قلبيهما اثرا لا يعفو علي الزمان ولا يبيد.
إنه الصراع العنيف في داخل شارلوت بين الواجب والعفة, يكتنفانها ازاء الرجل الذي ارتبطت به ارتباطا قدسيا لا سبيل إلي الفكاك منه, أو الرجوع عنه, والحب المستعر في جنباتها ازاء رجل نزل إلي حياتها نزول الوحي وسكن قلبها وفكرها سكني الأعشاب والحشائش علي ضفاف الينابيع والسواقي.
يقول جوته: احست شارلوت لأول مرة, دون أن تعترف صراحة بما تحس, أن رغيبة قلبها ومنية نفسها ان يكون فرتر خالصا لها دون سواها, ولكن صوتا من اعماق ضميرها ناداها: هيهات! لا تستطيعين أن تستخلصين فقد غدا عليك حراما, فسقط قلبها النقي الطاهر بعد خلوه من الهم أو اضطلاعه به رازحا تحت عبء من الحزن لا يشعر به الا من دجا امامه اليأس فلم يجد اثرا للسعادة.
اما الشخصية الرئيسية الثانية في الرواية فهي شخصية البير زوج شارلوت, وقد وصفه جوته في روايته بأوصاف تجمع علي خلقه الرفيع, وحبه وتفانيه لزوجته ووظيفته, ورجاحة عقله وتفكيره, وسلامة منطقه كيفما حدث او ناقش أو حاور, وصفاء سريرته وطويته إزاء الاخرين, ونبل حياته وشعوره الذي يحمله لخطيبته وافراد اسرته الصغار والكبار من غير تمييز أو تفرقه.
ولكن كان لابد من الصدام بين الرجلين: فرتر والبير في نهاية الامر ذلك أن عاطفة الحب وعنفوانها لا يسمحان بتعايش القلوب واشتراكها في نبض واحد مقسم بين اثنين ــ كما يقول الدكتور الأيوبي ــ لافرتر استطاع احتمال حب شارلوت العارم الدفين له مع بقائها في كنف رجل آخر, مهما كانت الاسباب والعلائق, ولا ألبير امكنه السكوت عن هذا الاوار الداخلي الهامس في احشاء زوجته, ترزح تحته المرأة الرقيقة السامية, فكان لابد من التنافر والتصادم بين الرجلين من جهة, وبين شارلوت ونوازعها وزفراتها ونبضاتها في جنباتها من جهة ثانية, وبين كل من الرجلين وتحسسه الداخلي, وموازنته العصبية بين ما يهواه ويشتهيه, وما هو محرم عليه مقيت ومستكره.
اما فرتر بطل الرواية فقد صاغه جوته نموذجا للبطل الرومانسي, الذي جسد اهم ملامح هذا المذهب في الادب الأوروبي فهو شاب طاهر القلب, رهيف الاحساس متقد الشعور الي درجة الغلو والتطرف, مخلص الطوية نظيف السريرة, سريع الانفعال والتجاوب مع مظاهر الطبيعة, والإنسانية الباحثة عن واحة استقرار وسكينة, في هذا العالم الدنيوي الموغل في الأنانية والانتهازية والجشع والتحكم, والمتشح بالمبادئ والشعارات الخاوية البراقة, الماثلة في حياة الناس بأشكال وأساليب مختلفة, يجمعها الرياء الاجتماعي المتصنع والتزيي بأزياء العصر, بكل ما يخالطها من سذاجة وانقياد أعمي واعتناق سطحي لتقاليد واهنة بالية.
فجأء, كما وصفه صديق شيبوب في كتابه عن جوته: مثل جوته في فرتر شابا خيالي النزعة, ثائرا علي أحكام القدر, عطشا للملذات المرهفة الأنيقة, فخورا بإحساسه حتي لا يكبح له جماح, ضعيفا عن التغلب علي أهوائه ولقد وصف فرتر نفسه قائلا: ألا إن العلم الذي أعرفه, يستطيع كل أن يجمعه ويحصله, ولكن القلب الذي أحمله, لا يتسني لغيري أن يحمله ولقد زاد من محنته ومعاناته المأساوية أن المرأة التي أحبها ـ وهي شارلوت أقرب إلي الملاك الذي انسكب من نور وصيغ من أرج فردوسي, لا يسعها أن تكون غير ما هي ولا تملك التلبس والتلون. فهي مثله جذوة من حنان وإضمامه من رحيق الفؤاد تحترق بقدر ما تحرق, وتنكوي بلظي الخفق والتلوي مع كل خطرة من وجدانها وكل زفرة من زفرات صدرها. ولئن كان هناك ما تتميز به فهو معاناتها الصامتة وأنكفاؤها علي ذاتها وكأنها تنفذ عقوبة بالانتحار, بل إنها تقول لفرتر ـ في غمرة عطف يائس لفها بسحب داكنة من الشجن: كن رجلا, وخلص نفسك من غرام مشئوم بفتاة لا تملك إلا الرثاء لك والإشفاق عليك! ما معني أن تقصر هواك علي يا فرتر, وأنت تعلم أن زمامي بيد آخر؟ أنا أخشي أن يكون يأسك مني هو ما يهيج رغبتك في ويضرم ولوعك بي!
وعندما يحتدم شعور فرتر نحو إلبير, في لحظة غضب عارم واضطراب عصبي عاصف, وقد تراءي له شبح إهمال أو تراخ من إلبير بالنسبة لإسعاد زوجته, ومنحها ما تستحق من إكبار وإجلال, فإنه يقول في نبرة حاقدة غاضبة: لا يعرف إلا أنه مالكها! نعم, هو مالكها!! وقد كنت أحسبني ألفت هذه الفكرة واعتدتها, فإذا هي لا تزال توقد صدري بالغضب, وستطفئ حياتي يوما معا
وكأنه هنا يتنبأ بنهايته المأساوية وانتحاره بإطلاق الرصاص علي نفسه هربا من هذا إلي اليأس والمعاناة التي تفوق احتماله, ألم ير في حبي لشارلوت تعديا لحدوده ونقضا لعهوده ؟ ألم يجد في رعايتي لها وعنايتي بها تأنيبا صامتا علي إهماله, وتنبيها دائما علي إغفاله؟
لقد شاء جوته في روايته أن يرقي بالحب حالا علي حال, وكؤوسا مترعة بالوجد والتفاني الكلي بين فرترو شارلوت منذ التقيا لأول مرة في حفل راقص, وعاد فرتر وهو يقود مركبته دون أن يعرف وقعا لزمن أو إحساسا بمسافة, لأن عينيه تصطليان بعيني شارلوت الساهرتين.
يقول فرتر عن تلك الليلة في ختام رسالة لصديقه: أقسم إني ـ منذ ذلك الحين ـ أري الشمس تشرق وتغرب, والقمر يبزغ ويأفل, والكواكب تطلع وتغيب, دون أن أعرف لها تقلبا ولا مدارا, ولا أعلم الوقت إن كان ليلا أو نهارا. فالعالم بأسره زال وانمحي من حولي, فلا أجد له عينا ولا أثرا.
وعندما نصل إلي صفحة اليوم الأخير, ونبضات الساعات الأخيرة التي كتبها فرتر بأنفاسه المتدافعة لعناق الأزل, ونبضات قلبه المضرج بسعار النشوة البتول والاحتضان المخبول بعد أقل من أربع وعشرين ساعة علي اللقاء المحموم الأخير بينه وبين شارلوت, الذي كشف له عن الصخرة المستحيلة التي تحول بينهما وتدفع بعاطفتيهما إلي الكارثة, ها هو ذا ـ بعد أن استقر رأيه علي الانتحار يدون في أوراق خاصة وجهها إلي شارلوت:
تلك إذن هي المرة الأخيرة التي أفتح فيها عيني!
وأسفاه! إنهما لم يريا ضوء الشمس بعد. الشمس محتجبة بالغمام. والسماء منتقبة بالظلام, وهكذا, فليكن حدادك أيتها الطبيعة إن ابنك وحبيبك يقرب من نهاية أيامه, ويدنو من ساعة حمامه. شارلوت: إن الشعور الذي يشعر به المرء ساعة يقول لنفسه: ذلك هو يومي الأخير لا يوازيه شعور ولا يقاربه شئ اللهم إلا عواطف الأحلام المبهمة. الأخير ؟ هذه الكلمة يا شارلوت لا أفهم لها معني. ألست اليوم في مرح القوة ووفور العافية ؟ وغدا ساكون طريحا علي الثري دون قوة ولا حركة أنا اليوم لا أزال لنفسي. بل لك يا حبيبة القلب! وفي لحظة واحدة ينسدل بيننا حجاب القدر فنتفرق ويفقد كلانا الآخر, وربما كان ذلك إلي الأبد! لا, لا يا شارلوت! كيف يعروني الفناء, وكيف يطويك البلي ونحن مع ذلك نعيش ونوجد ؟ ما معني الفناء أيضا ؟إنها كلمة جوفاء لا تسفر عن معني ولا تدل قلبي علي شئ.
أمعني الموت يا شارلوت أن أغيب في جوف الأرض وأقبر في لحد ضيق مظلم؟ يا للهول! موت! فناء! قبر!
كلمات مخيفة لا أفهم لها معني ولا أدري لها حقيقة آه! عفوا أيها الملاك وصفحا! أمس, يالله من أمس!! ليته كان آخر عهدي بالحياة! أجل أيها الملاك الملاك الكريم! تلك كانت أول مرة شعرت فيها يقينا بسرور نفسي, وشعور قدسي, سريا في عروقي وجريا في دمي, فاهتز لهما جثماني, وفاض بهما وجداني. ذلك لأنني علمت أنك تحبينني!! وهذه النار المقدسة التي سرت من شفتيك. لا تزال تحرق شفتي! ألا إن نشوة شديدة جديدة قد ملكت مشاعري, وملأت قلبي وخاطري. فعفوا يا ملاك وصفحا!
ويعلق الدكتور ياسين الأيوبي علي هذه الرسالة بقوله علي هذا النسق من الحب الملتهب تتابعت فصول العلاقة بين البطلين, وحيكت خيوطها فأشاعت سحبا وردية من الوصال, وعمقت من معالم الأدب الرومانسي(أو الرومانتيكي) وتقاسيمه البارزة, فكانت رواية آلام فرتر محطة كبري في قافلة الأدب العالمي بعامة, والرومانتيكي بخاصة, بعد رواية هلويزالجديدةلجان جاك روسو وقبل أعمال الرومانتيكيين الفرنسيين الكبار: هيجو ولامارتين وموسيه وفيني.
لقد كان فرتر- البطل الرومانتيكي في رواية جوته- يعيش بقلبه لا عقله, وقلبه لا يموت بموته, ولا يتوقف نبض قلبه عند نقطة من نقاط الوجود. فهو صنو الكواكب الخالدة في السماء, طالما ناداها من فوق شرفات الوادي الظليل التي كان يأوي إليها في أسحاره وعشيات أيامه, يناجيها ويسامرها, متخذا منها منطلقات لروحه الهائمة فوق الحقول والبحار, وأكثر ما كان يفعل ذلك وهو خارج من بيت حبيبته يواصل معها هيامه المبرح وترنمه القلبي الموجع, مستمرا في ذلك حتي ساعات الفجر.
يقول فرتر في السطور التي كتبها قبيل الانتحار: كل ما حوالي هاديء ساكن, وكذلك نفسي آمنة مطمئنة. فلك الشكر يامولاي علي ما ادخرت لي في ساعتي الأخيرة من قوة وحرارة وعزم. أدنو من النافذة ياشارلوت فأري من خلال السحب المزجاة في جو السماء, نجوما مبعثرة تتألق في قبة السماء معاذ الله أيتها الكواكب الخالدة أن تسقطي, إن الدائم الباقي سيضمك إلي خلوده, ويلقي علينا نفحة من وجوده.
ويقول فرتر وهو يودع دنياه ويغادر وجوده مستشعرا غبطة عظيمة وقدرا هائلا من السؤدد والكرامة والاعتداد: قدمي الكأس ياشارلوت, فليس بي رعدة ولا وجل, قدمي الكأس المخيفة الباردة, أذق فيها سكرة الموت, أنت التي تقدمينها إلي, فكيف أتردد أو أحجم؟ كذلك يارب تتم رغائبي وتتحقق آمالي في الحياة! سأقرع أبواب الموت النحاسية غير هياب ولا واجف!
لقد فتنت هذه الرواية أديبنا الكبير أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة فتنة كبري, فكان حماسه لترجمتها إلي العربية في لغة أدبية رصينة وانعطاف حميم مع شخصياتها وأحداثها وهو الذي قرأ الكثير من الروايات والأعمال الشعرية مثل هلويز الجديدة لروسو ورينيه وأتالا لشاتوبريان وغادة الكاميليا لدوماس الابن وجرازييلا ورفائيل للامرتين لكنها لم تؤثر فيه كما أثرت آلام فرتر يقول الزيات في المجلد الأول من وحي الرسالة: كانت شخصياتهم جميعا غيري. نتفق في الموضوع ونفترق في الوضع, كالنساء النوادب في مناحة و تندب كل واحدة منهن فقيدها, وموضوع الأسي للجميع واحد هو الموت. فلما قرأت آلام فرتر سمعت نواحا غير النواح ورأيت روحا غير هاتيك الأرواح وأحسست حالات غير تلك الحال.
ويصور الزيات تأثره العميق بآلام فرتر حتي لكأنه قد أصبح فرتر وجوته في آن واحد, وكأن محبوبته هي شارلوت قائلا: كنت أقرأ ولا أقرأ في الحادثة سواي, وأشعر ولا أشعر إلا بهواي, وأندب ولا أندب إلا بلواي. فهل كنت أقرأ في خيالي أم أنظر في قلبي, أم هو الصدق في نقل الشعور والحذف في تصوير العاطفة, يظهر قلوب الناس جميعا علي لون واحد.
لما قرأت فرتر تنفس جواي المكظوم, لأنني لو كنت صببت مهجتي علي قرطاس, لما كانت غير فرتر وهل فرتر إلا قصة الشباب في كل جيل؟ رجل شديد الحس قوي العاطفة يتقسم الخيال والإيديال نواحي نفسه, ورجل آخر بارد الطبع, عملي الفكر, يعرف دائما كيف يجر النار إلي قرصه, وامرأة بينهما يجذبها إلي الأول طبعها الغزلي وقلبها الشاعر, ويربطها بالآخر عقلها المادي ووعدها المأخوذ.
أما الدكتور ياسين الأيوبي- الشاعر والناقد اللبناني- الذي أقدم علي نشر هذه الطبعة الجديدة من آلام فرتر بعد أن قدم لها بمقدمة تحليلية ضافية وملأها بشروح وهوامش كثيرة. فقد وقع هو الاخر في حب الرواية وعشقها منذ وقت مبكر وهو يقول: قرأت فرتر في مرحلة الصبا, فروت كثيرا من لواعج القلب المترنح حتي الانطفاء آنذاك.
ثم قرأتها ثانية في مطلع الثمانينيات فإنتابني دوار الأمس, وحييت من جديد دوارا جديدا لا تزال ناره تلفني حتي اليوم. وهأنذا خارج من قراءتها, من أجل دراستها وتحليلها, فإذا بي فرتر آخر وشارلوت واحدة من النساء اللواتي خلبن الفؤاد وأشقينه بنعيم الوصل, دون أن يندي الجسد عن حميا اتصال واحد. وأعظم مافي هذه الرواية. هذا السمت الطاهر العفيف الذي تمثلته شارلوت وسلوكها العفوي الطاهر البريء وتعففها البطولي بما لانكاد نجد له مثيلا في دنيا الفن أو حياتنا الواقعية.
وسوف تبقي آلام فرتر علي تعاقب الأيام شاهدا علي عبقرية جوته الشاعر الفيلسوف وعظمته الإبداعية, وتجسيدا لقصة حب أصبحت مثلا أعلي للحب الرومانتيكي العفيف في كل الآداب العالمية, وقبسا يتوهج أمام عيون شبابنا الظاميء دوما إلي مثل هذا الحب الطاهر العفيف.ول كل فصل يتكلم عم مرحلة معينة من حياة فرتر
وبقي أن نقترب من الرواية ذاتها, شخصيات واحداثا ومواقف واجواء, محاولين اكتشاف سر العبقرية في صياغتها وبنائها الفني ولغتها الشاعرية المحكمة, لا يزيد عدد ابطال الرواية الرئيسية عن ثلاثة: فرتر وشارلوت والبير ــ الثالوث التقليدي في أية قصة حب شائكة ومرتبكة: الحبيب والحبيبة والزوج.
وشارلوت بطلة الرواية اسم حقيقي في حياة فرتر منتزع من اسم الفتاة الريفية شارلوت بيف التي كانت مخطوبة لشاب موظف في المحكمة, ووقع فرتر في حبها وعاش بسببها حياة مفعمة بالقلق والاكتئاب, فقرر ان يبقي في روايته علي اسمها الحقيقي, بعد أن طغت علي مداركه وسكنت جوارحه, فأصبحت ــ كما يقول الدكتور ياسين الأيوبي, الذي قدم لترجمة الزيات للرواية بدراسة تحليلية ضافية وشروح كثيرة ــ أصبحت الهواء الذي يتنفسه فرتر والنور الذي يبصر والعنصر الوجودي الوحيد الذي يحقق له الحياة, وعندما وصفها في روايته أشار الي أنها ذات وجه ساحر وقوام فارع وهيئة لم يقع بصره علي أتم منها جلالا وروعة, وعندما رآها أول مرة كانت ترتدي ثوبا ساذجا أبيض, تجمله عقد وردية علي ردفيه ومنطقته ويصفها فرتر ــ وهو يراقبها اثناء كلامها مع بعض صواحبها ــ بأنها ذات منطق اخاذ ووجه مشرق متوهج بالفتنة والذكاء, يطفح بالبشر والرضا, وأنها تحب منذ الصغر القصص التي تملأ بها أوقاتها التي ليس لها من الفراغ الا النزر اليسير, ولا تقبل من الكتب الا الذي يشعرها بقيمة وجودها, ويزيد من غبطتها وسعادتها, ويعمق من سمات الاخلاص والصداقة.
ويصف فرتر تأثير جمال حديثها فيه قائلا: بينما كانت تتكلم كنت أنعم بالنظر إلي عينيها الدعجاوين, واشعر أن نفسي تترامي علي شفتيها القرمزيتين, وخدها الاسيل النضر, واعجب الاشياء اني كنت ثملا بسلافة حديثها, معجبا بنبالة معانيها, دون ان اسمع في الغالب الفاظها التي تؤديها, وهي عندما ترقص ترقص بقلبها ونفسها, وتترك جسمها يموج ويميد في انتظام وانسجام وتنساب في حركاتها حرة طليقة, وفي لفتاتها سريعة رشيقة, لا تفكر الا في الرقص ولا تشعر الا به, وأن كل شئ قد فني في خاطرها وناظرها.
ويجيد جوته تصوير الحالة النفسية لبطلة روايته شارلوت وانتزاع ادق الملامح الذاتية التي تتألف منها حياتها المتداخلة المرتبكة حيال رجلين يحومان حولها تحويم الفراش حول مشكاة مضيئة في غلس الظلام, أحدهما ــ وهو زوجها ــ عرفت فيه الوفاء والحب, وأضمرت له الإخلاص والود, ووجدت في اخلاقه المتينة الرضية ضمانا قويا لسعادة امرأة فاضلة, وثانيها ــ وهو فرتر ــ أصبح إليها حبيبا وعليها عزيزا, فوجدت أن نفسيهما تآلفتا منذ تعارفتا, وأن عشرتهما المستمرة ومودتهما المتبادلة وعواطفهما المتجددة قد تركت في قلبيهما اثرا لا يعفو علي الزمان ولا يبيد.
إنه الصراع العنيف في داخل شارلوت بين الواجب والعفة, يكتنفانها ازاء الرجل الذي ارتبطت به ارتباطا قدسيا لا سبيل إلي الفكاك منه, أو الرجوع عنه, والحب المستعر في جنباتها ازاء رجل نزل إلي حياتها نزول الوحي وسكن قلبها وفكرها سكني الأعشاب والحشائش علي ضفاف الينابيع والسواقي.
يقول جوته: احست شارلوت لأول مرة, دون أن تعترف صراحة بما تحس, أن رغيبة قلبها ومنية نفسها ان يكون فرتر خالصا لها دون سواها, ولكن صوتا من اعماق ضميرها ناداها: هيهات! لا تستطيعين أن تستخلصين فقد غدا عليك حراما, فسقط قلبها النقي الطاهر بعد خلوه من الهم أو اضطلاعه به رازحا تحت عبء من الحزن لا يشعر به الا من دجا امامه اليأس فلم يجد اثرا للسعادة.
اما الشخصية الرئيسية الثانية في الرواية فهي شخصية البير زوج شارلوت, وقد وصفه جوته في روايته بأوصاف تجمع علي خلقه الرفيع, وحبه وتفانيه لزوجته ووظيفته, ورجاحة عقله وتفكيره, وسلامة منطقه كيفما حدث او ناقش أو حاور, وصفاء سريرته وطويته إزاء الاخرين, ونبل حياته وشعوره الذي يحمله لخطيبته وافراد اسرته الصغار والكبار من غير تمييز أو تفرقه.
ولكن كان لابد من الصدام بين الرجلين: فرتر والبير في نهاية الامر ذلك أن عاطفة الحب وعنفوانها لا يسمحان بتعايش القلوب واشتراكها في نبض واحد مقسم بين اثنين ــ كما يقول الدكتور الأيوبي ــ لافرتر استطاع احتمال حب شارلوت العارم الدفين له مع بقائها في كنف رجل آخر, مهما كانت الاسباب والعلائق, ولا ألبير امكنه السكوت عن هذا الاوار الداخلي الهامس في احشاء زوجته, ترزح تحته المرأة الرقيقة السامية, فكان لابد من التنافر والتصادم بين الرجلين من جهة, وبين شارلوت ونوازعها وزفراتها ونبضاتها في جنباتها من جهة ثانية, وبين كل من الرجلين وتحسسه الداخلي, وموازنته العصبية بين ما يهواه ويشتهيه, وما هو محرم عليه مقيت ومستكره.
اما فرتر بطل الرواية فقد صاغه جوته نموذجا للبطل الرومانسي, الذي جسد اهم ملامح هذا المذهب في الادب الأوروبي فهو شاب طاهر القلب, رهيف الاحساس متقد الشعور الي درجة الغلو والتطرف, مخلص الطوية نظيف السريرة, سريع الانفعال والتجاوب مع مظاهر الطبيعة, والإنسانية الباحثة عن واحة استقرار وسكينة, في هذا العالم الدنيوي الموغل في الأنانية والانتهازية والجشع والتحكم, والمتشح بالمبادئ والشعارات الخاوية البراقة, الماثلة في حياة الناس بأشكال وأساليب مختلفة, يجمعها الرياء الاجتماعي المتصنع والتزيي بأزياء العصر, بكل ما يخالطها من سذاجة وانقياد أعمي واعتناق سطحي لتقاليد واهنة بالية.
فجأء, كما وصفه صديق شيبوب في كتابه عن جوته: مثل جوته في فرتر شابا خيالي النزعة, ثائرا علي أحكام القدر, عطشا للملذات المرهفة الأنيقة, فخورا بإحساسه حتي لا يكبح له جماح, ضعيفا عن التغلب علي أهوائه ولقد وصف فرتر نفسه قائلا: ألا إن العلم الذي أعرفه, يستطيع كل أن يجمعه ويحصله, ولكن القلب الذي أحمله, لا يتسني لغيري أن يحمله ولقد زاد من محنته ومعاناته المأساوية أن المرأة التي أحبها ـ وهي شارلوت أقرب إلي الملاك الذي انسكب من نور وصيغ من أرج فردوسي, لا يسعها أن تكون غير ما هي ولا تملك التلبس والتلون. فهي مثله جذوة من حنان وإضمامه من رحيق الفؤاد تحترق بقدر ما تحرق, وتنكوي بلظي الخفق والتلوي مع كل خطرة من وجدانها وكل زفرة من زفرات صدرها. ولئن كان هناك ما تتميز به فهو معاناتها الصامتة وأنكفاؤها علي ذاتها وكأنها تنفذ عقوبة بالانتحار, بل إنها تقول لفرتر ـ في غمرة عطف يائس لفها بسحب داكنة من الشجن: كن رجلا, وخلص نفسك من غرام مشئوم بفتاة لا تملك إلا الرثاء لك والإشفاق عليك! ما معني أن تقصر هواك علي يا فرتر, وأنت تعلم أن زمامي بيد آخر؟ أنا أخشي أن يكون يأسك مني هو ما يهيج رغبتك في ويضرم ولوعك بي!
وعندما يحتدم شعور فرتر نحو إلبير, في لحظة غضب عارم واضطراب عصبي عاصف, وقد تراءي له شبح إهمال أو تراخ من إلبير بالنسبة لإسعاد زوجته, ومنحها ما تستحق من إكبار وإجلال, فإنه يقول في نبرة حاقدة غاضبة: لا يعرف إلا أنه مالكها! نعم, هو مالكها!! وقد كنت أحسبني ألفت هذه الفكرة واعتدتها, فإذا هي لا تزال توقد صدري بالغضب, وستطفئ حياتي يوما معا
وكأنه هنا يتنبأ بنهايته المأساوية وانتحاره بإطلاق الرصاص علي نفسه هربا من هذا إلي اليأس والمعاناة التي تفوق احتماله, ألم ير في حبي لشارلوت تعديا لحدوده ونقضا لعهوده ؟ ألم يجد في رعايتي لها وعنايتي بها تأنيبا صامتا علي إهماله, وتنبيها دائما علي إغفاله؟
لقد شاء جوته في روايته أن يرقي بالحب حالا علي حال, وكؤوسا مترعة بالوجد والتفاني الكلي بين فرترو شارلوت منذ التقيا لأول مرة في حفل راقص, وعاد فرتر وهو يقود مركبته دون أن يعرف وقعا لزمن أو إحساسا بمسافة, لأن عينيه تصطليان بعيني شارلوت الساهرتين.
يقول فرتر عن تلك الليلة في ختام رسالة لصديقه: أقسم إني ـ منذ ذلك الحين ـ أري الشمس تشرق وتغرب, والقمر يبزغ ويأفل, والكواكب تطلع وتغيب, دون أن أعرف لها تقلبا ولا مدارا, ولا أعلم الوقت إن كان ليلا أو نهارا. فالعالم بأسره زال وانمحي من حولي, فلا أجد له عينا ولا أثرا.
وعندما نصل إلي صفحة اليوم الأخير, ونبضات الساعات الأخيرة التي كتبها فرتر بأنفاسه المتدافعة لعناق الأزل, ونبضات قلبه المضرج بسعار النشوة البتول والاحتضان المخبول بعد أقل من أربع وعشرين ساعة علي اللقاء المحموم الأخير بينه وبين شارلوت, الذي كشف له عن الصخرة المستحيلة التي تحول بينهما وتدفع بعاطفتيهما إلي الكارثة, ها هو ذا ـ بعد أن استقر رأيه علي الانتحار يدون في أوراق خاصة وجهها إلي شارلوت:
تلك إذن هي المرة الأخيرة التي أفتح فيها عيني!
وأسفاه! إنهما لم يريا ضوء الشمس بعد. الشمس محتجبة بالغمام. والسماء منتقبة بالظلام, وهكذا, فليكن حدادك أيتها الطبيعة إن ابنك وحبيبك يقرب من نهاية أيامه, ويدنو من ساعة حمامه. شارلوت: إن الشعور الذي يشعر به المرء ساعة يقول لنفسه: ذلك هو يومي الأخير لا يوازيه شعور ولا يقاربه شئ اللهم إلا عواطف الأحلام المبهمة. الأخير ؟ هذه الكلمة يا شارلوت لا أفهم لها معني. ألست اليوم في مرح القوة ووفور العافية ؟ وغدا ساكون طريحا علي الثري دون قوة ولا حركة أنا اليوم لا أزال لنفسي. بل لك يا حبيبة القلب! وفي لحظة واحدة ينسدل بيننا حجاب القدر فنتفرق ويفقد كلانا الآخر, وربما كان ذلك إلي الأبد! لا, لا يا شارلوت! كيف يعروني الفناء, وكيف يطويك البلي ونحن مع ذلك نعيش ونوجد ؟ ما معني الفناء أيضا ؟إنها كلمة جوفاء لا تسفر عن معني ولا تدل قلبي علي شئ.
أمعني الموت يا شارلوت أن أغيب في جوف الأرض وأقبر في لحد ضيق مظلم؟ يا للهول! موت! فناء! قبر!
كلمات مخيفة لا أفهم لها معني ولا أدري لها حقيقة آه! عفوا أيها الملاك وصفحا! أمس, يالله من أمس!! ليته كان آخر عهدي بالحياة! أجل أيها الملاك الملاك الكريم! تلك كانت أول مرة شعرت فيها يقينا بسرور نفسي, وشعور قدسي, سريا في عروقي وجريا في دمي, فاهتز لهما جثماني, وفاض بهما وجداني. ذلك لأنني علمت أنك تحبينني!! وهذه النار المقدسة التي سرت من شفتيك. لا تزال تحرق شفتي! ألا إن نشوة شديدة جديدة قد ملكت مشاعري, وملأت قلبي وخاطري. فعفوا يا ملاك وصفحا!
ويعلق الدكتور ياسين الأيوبي علي هذه الرسالة بقوله علي هذا النسق من الحب الملتهب تتابعت فصول العلاقة بين البطلين, وحيكت خيوطها فأشاعت سحبا وردية من الوصال, وعمقت من معالم الأدب الرومانسي(أو الرومانتيكي) وتقاسيمه البارزة, فكانت رواية آلام فرتر محطة كبري في قافلة الأدب العالمي بعامة, والرومانتيكي بخاصة, بعد رواية هلويزالجديدةلجان جاك روسو وقبل أعمال الرومانتيكيين الفرنسيين الكبار: هيجو ولامارتين وموسيه وفيني.
لقد كان فرتر- البطل الرومانتيكي في رواية جوته- يعيش بقلبه لا عقله, وقلبه لا يموت بموته, ولا يتوقف نبض قلبه عند نقطة من نقاط الوجود. فهو صنو الكواكب الخالدة في السماء, طالما ناداها من فوق شرفات الوادي الظليل التي كان يأوي إليها في أسحاره وعشيات أيامه, يناجيها ويسامرها, متخذا منها منطلقات لروحه الهائمة فوق الحقول والبحار, وأكثر ما كان يفعل ذلك وهو خارج من بيت حبيبته يواصل معها هيامه المبرح وترنمه القلبي الموجع, مستمرا في ذلك حتي ساعات الفجر.
يقول فرتر في السطور التي كتبها قبيل الانتحار: كل ما حوالي هاديء ساكن, وكذلك نفسي آمنة مطمئنة. فلك الشكر يامولاي علي ما ادخرت لي في ساعتي الأخيرة من قوة وحرارة وعزم. أدنو من النافذة ياشارلوت فأري من خلال السحب المزجاة في جو السماء, نجوما مبعثرة تتألق في قبة السماء معاذ الله أيتها الكواكب الخالدة أن تسقطي, إن الدائم الباقي سيضمك إلي خلوده, ويلقي علينا نفحة من وجوده.
ويقول فرتر وهو يودع دنياه ويغادر وجوده مستشعرا غبطة عظيمة وقدرا هائلا من السؤدد والكرامة والاعتداد: قدمي الكأس ياشارلوت, فليس بي رعدة ولا وجل, قدمي الكأس المخيفة الباردة, أذق فيها سكرة الموت, أنت التي تقدمينها إلي, فكيف أتردد أو أحجم؟ كذلك يارب تتم رغائبي وتتحقق آمالي في الحياة! سأقرع أبواب الموت النحاسية غير هياب ولا واجف!
لقد فتنت هذه الرواية أديبنا الكبير أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة فتنة كبري, فكان حماسه لترجمتها إلي العربية في لغة أدبية رصينة وانعطاف حميم مع شخصياتها وأحداثها وهو الذي قرأ الكثير من الروايات والأعمال الشعرية مثل هلويز الجديدة لروسو ورينيه وأتالا لشاتوبريان وغادة الكاميليا لدوماس الابن وجرازييلا ورفائيل للامرتين لكنها لم تؤثر فيه كما أثرت آلام فرتر يقول الزيات في المجلد الأول من وحي الرسالة: كانت شخصياتهم جميعا غيري. نتفق في الموضوع ونفترق في الوضع, كالنساء النوادب في مناحة و تندب كل واحدة منهن فقيدها, وموضوع الأسي للجميع واحد هو الموت. فلما قرأت آلام فرتر سمعت نواحا غير النواح ورأيت روحا غير هاتيك الأرواح وأحسست حالات غير تلك الحال.
ويصور الزيات تأثره العميق بآلام فرتر حتي لكأنه قد أصبح فرتر وجوته في آن واحد, وكأن محبوبته هي شارلوت قائلا: كنت أقرأ ولا أقرأ في الحادثة سواي, وأشعر ولا أشعر إلا بهواي, وأندب ولا أندب إلا بلواي. فهل كنت أقرأ في خيالي أم أنظر في قلبي, أم هو الصدق في نقل الشعور والحذف في تصوير العاطفة, يظهر قلوب الناس جميعا علي لون واحد.
لما قرأت فرتر تنفس جواي المكظوم, لأنني لو كنت صببت مهجتي علي قرطاس, لما كانت غير فرتر وهل فرتر إلا قصة الشباب في كل جيل؟ رجل شديد الحس قوي العاطفة يتقسم الخيال والإيديال نواحي نفسه, ورجل آخر بارد الطبع, عملي الفكر, يعرف دائما كيف يجر النار إلي قرصه, وامرأة بينهما يجذبها إلي الأول طبعها الغزلي وقلبها الشاعر, ويربطها بالآخر عقلها المادي ووعدها المأخوذ.
أما الدكتور ياسين الأيوبي- الشاعر والناقد اللبناني- الذي أقدم علي نشر هذه الطبعة الجديدة من آلام فرتر بعد أن قدم لها بمقدمة تحليلية ضافية وملأها بشروح وهوامش كثيرة. فقد وقع هو الاخر في حب الرواية وعشقها منذ وقت مبكر وهو يقول: قرأت فرتر في مرحلة الصبا, فروت كثيرا من لواعج القلب المترنح حتي الانطفاء آنذاك.
ثم قرأتها ثانية في مطلع الثمانينيات فإنتابني دوار الأمس, وحييت من جديد دوارا جديدا لا تزال ناره تلفني حتي اليوم. وهأنذا خارج من قراءتها, من أجل دراستها وتحليلها, فإذا بي فرتر آخر وشارلوت واحدة من النساء اللواتي خلبن الفؤاد وأشقينه بنعيم الوصل, دون أن يندي الجسد عن حميا اتصال واحد. وأعظم مافي هذه الرواية. هذا السمت الطاهر العفيف الذي تمثلته شارلوت وسلوكها العفوي الطاهر البريء وتعففها البطولي بما لانكاد نجد له مثيلا في دنيا الفن أو حياتنا الواقعية.
وسوف تبقي آلام فرتر علي تعاقب الأيام شاهدا علي عبقرية جوته الشاعر الفيلسوف وعظمته الإبداعية, وتجسيدا لقصة حب أصبحت مثلا أعلي للحب الرومانتيكي العفيف في كل الآداب العالمية, وقبسا يتوهج أمام عيون شبابنا الظاميء دوما إلي مثل هذا الحب الطاهر العفيف.ول كل فصل يتكلم عم مرحلة معينة من حياة فرتر