خالد بن الوليد:
ويوم الحديبية عزم خالد بن الوليد ـ وكان على رأس خيل قريش ـ أن يغير على المسلمين حال صلاتهم العصر، وتكلم هو وأصحابه بأن للمسلمين صلاةً (العصر) هي أحب إليهم من أبنائهم وأموالهم (15)، وتقول الروايات بأن جبريل نزل من السماء وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يفكر فيه خالد وأصحابه، فصلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأصحابه صلاة الخوف (16)، فعلم خالد أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممنوع، وحاول خالد أن يغدر بالمسلمين بغير هذه الوسيلة.. كان عازماً على الحرب سالكاً أسبابها، وعباس العقَّاد لا يعرف هذا، بل يسند الفعل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تلقاء نفسه عرف ما ينويه خالد وأصحابه، يقول العقاد على لسان خالد بن الوليد: "هممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا، وكان فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهجوم به، فصلى بأصحابه العصر صلاة الخوف" (17)، وقبل هذا النص بسطرين يقول: "وهمَّ خالد أن يغير عليه لولا نخوة من الفروسية أبت له العدوان على المسالم وقمعت فيه طمع الرئيس الموتور"، وهذا تضارب فلا ندري هل مُنع الرسول صلى الله عليه وسلم من خالد بخيريته التي علم بها كما يدعي فيما ينقله عن خالد؟، أم أن خالدا كف شره بموجب حسن الخلق الذي يتمتع به كما يزعم العقاد؟
ولو نقل الرواية التي نقلها ابن حجر في شرح حديث البخاري (3817) وهي أشهر وأوضح وفيها أن جبريل هو الذي أخبر النبي لكان أولى به وأفضل.
نعيم بن مسعود:
ويقول بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربما بلغ برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة، وبالمكاتب والدواوين، وبدر الأموال، ويضرب مثالا بـ نعيم بن مسعود ـ رضي الله عنه (18).
والعقاد يقف منفرداً كما هي عادته، فهو أول من قال أن ما كان من نعيم بن مسعود هو بتدبير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد راجعت ما لا يقل عن عشرين مصدراً للسيرة والحديث والتفسير كلهم على أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يزد على أن قال لنعيم بن مسعود كلمة واحدة: "إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت"، وما درى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء بعد ذلك.
بل يصرحون بأن ذلك كان من تدبير الله عز وجل؛ يقول بن القيم: "ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم به جموعهم وفلَّ به حدهم فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر..." (19)، وابن هشام بعد سرد القصة يقول: "وخذَّل بينهم" (20). ينسب الفعل لنعيم بن مسعود. والعقاد ينسب الفعل للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكأنه خطط له ودبر، وكأنه هو الذي جاء بنعيم بن مسعود وهو الذي رسم له الخطة وأعانه على تنفيذها، كل ذلك لأن الرجل لا يرى أثر الوحي.
وهو متردد كعادته ففي مكانٍ آخر أسند الفعل إلى نعيم بن مسعود لا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
العقاد يُعِّرف الرسول!!
يسأل في بداية (عبقرية محمد) من هو الرسول؟ ويجيب: "هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس، لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعاً يأمرهم بالحسن وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم".
لاحظ: لا تسمع حسّاً للوحي في كلامه!!
العقاد يعرف البلاغ المبين:
ويتكلم عن البلاغ، ويأتي بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عرفة (اللهم هل بلغت اللهم فاشهد) ويحور ويدور ليعطي البلاغ معناً غير الوحي.. غير البلاغ عن الله، يفسر البلاغ بالإبلاغ.. البلاغ عند العقاد أسلوب من أساليب التعبير يستطيع بها المتكلم أن يوصل المعنى من أقصر طريق وأوضحه!!
كل هذا لينكر الوحي، وليقول بنظرية (الوعي الكوني) والتي من صِوَرِها (العبقريات) أو لينتصر للفردية، وهي منهجه في التفكير، وقضيته الرئيسية التي كتب من أجلها العبقريات.
وكل الشريعة وكل الملتزمين بها، بل وكل المنصفين من الناطقين بالضاد، يتجمعون في وجه العقاد رفضاً لكلامه، فهو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ورسول تعني مرسول من عند الله برسالة، وفي التنزيل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [سورة التغابن: 12]، {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [سورة العنكبوت: 18]، {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [سورة النور: 54]، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [سورة النحل: 82]، {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة النحل: 35]، {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة: 92].
وعلى لسان الرسل يقول الله تعالى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [سورة يس: 17].
والبلاغ المبين هو : الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها (21)، أو هو الَّذِي يُبِين عن معناه لمن أَبْلَغَهُ (22)، ويفهمه من أُرْسِلَ إليه (23).
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأتنا فقط بألفاظ القرآن بل بألفاظ القرآن وبمراد الله من هذه الألفاظ.
والصحابة رضوان الله عليهم لم يتلقوا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط منطوق القرآن الكريم ثم ذهبوا يفهمونها كما شاءوا، لا، بل كانوا يتعلمون الإيمان ثم يضبطون ما فهموه بالقرآن الكريم كما جاء في الحديث. عن جُنْدُبِ بن عبد الله قال كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ــ ونحن فتيان حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا (24).
وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أَبِي عبد الرحمن(25) قال: حدثنا من كان يُقْرِئُنَا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم كانوا يَقْتَرِئُونَ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.
والمراد: أن الصحابة رضوان الله عليهم تلقوا (نص) ـ منطوق ـ وتلقوا معنى، وهذا كله هو ما جاءنا من الله على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، هذا كله ما نحن ملزمين به ـ كتابعين لهؤلاء الكرام ـ . قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سورة النساء: 115].
وقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137].
فالصحابة هم من أراد الله بوصف المؤمنين في هذه الآيات ذلك أن الله عز وجل شهد لهم بالإيمان في آيات أخرى من كتابه (26) قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة: 100].
وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [سورة الفتح: 18].
عبادة النبي مصدرها الجاهلية!!
ويدَّعي عباس العقَّاد أن عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيامه وصيامه، لم يكن شيئاً من ذلك بتعاليم الوحي، يقول تحت عنوان (العابد): "تهيأ للعبادة بميراثه ونشأته وتكوينه؛ فولد في بيت السدانة والتقوى وتقدمه آباء يؤمنون ويوفون بإيمانهم، ويعتقدون ويخلصون فيما اعتقدوه.." (27).
وهو جاهل أو كذّاب فَسَدَانَةُ البيت لم تكن في بني عبد المطلب، ولا في بني عبد المناف وإنما كانت في بني عبد الدار، وحديث رد مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة معروف مشهور (28).
وأكد مراراً على أن ما كان بأبي بكر هو خلق أصيل فيه "أدب الطبع الذي يهتدي من نفسه بدليل".. "يدري بوحي نفسه"!! (29).
ولم تكن عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشبهها شيء من فِعال أهل الجاهلية، لا في قريش ولا في غيرها، أكانوا يركعون ويسجدون؟، أم كانوا يصومون؟، أو كان يحج كما يحجون؟!
العقاد لا يرى الوحي هذه حقيقة ثابتة في كل كتاباته عن أنبياء الله، وليس فقط عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، فالأنبياء (العباقرة)، تعلموا من البيئة أو من تلقاء أنفسهم أو من شيءِ آخر ولكن ليس من الوحي بالمعنى الذي نعرفه!!
وهو يتكلم عن المسيح عليه السلام يقدم بمقدمة طويلة عن موطن المسيح (الجليل أو فينيقية أو كنعان) وكيف أنها كانت مدينة قوافل تجارية، وكيف أن المسيح عليه السلام ولد في بيئة عرفت التسامح وتنكرت للجمود، وحضرت الثورات، وحضر زوال مُلك مَلِكٍ وقيام مُلْكٍ لملك آخر، يقدم ذلك كله وكأنه هو الباعث على ما ظهر على يد المسيح ـ عليه السلام ـ من تسامح، ومن ثورة على الأوضاع ورغبة جامحة في تغيرها (30).
وهذا الفرض يكذبه العقاد نفسه، فكم تكلم عن جشع (العشارين)، وكم تكلم عن طوائف يهود (الفريسيين) و ( الصدوقيون).. طبقة المنافقين وطبقة الارستقراطيين كما يسميهم، وفي الأحداث قرينة تكذبه، وهي بعثة يحى عليه السلام، ذلك أنه يرتكز في كل ما يكتب على ضرورة الزمن، فيرى أن كل نبي يبعث بوحي مما حواليه.. يسميه ضرورة الوقت، ويرى أن هذه (ضرورة الوقت) كبرى الأمارات على النبوة، ومن أجلها ينكر النبوات. ويحي ـ عليه السلام ـ وعيسى ـ عليه السلام ـ كانت أوصافهم متضادة ـ كما يحكي العقاد ـ ، أحدهم ـ يحي عليه السلام ـ قوي شديد يعظ الملك وينهره، ويواجه الناس بقوة، والثاني ـ عيسى عليه السلام ـ هين لين .فأيهم (أرسلته) ضرورة الوقت؟!!
لا أدري، ولا إخاله يدي، ولا تبحث فإن كل هذا كالبحث عن الماء فوق تل التراب، وإنه عباس العقاد أذهب الله بركته بإشغاله بما لا ينفع.
عيسى ـ عليه السلام ـ من أرسله؟!
يبحث في نهاية كتابه (حياة المسيح أو عبقرية المسيح)، عن مصدر ما جاء به المسيح ـ عليه السلام ـ ، من أين تعلم؟!
ولا يجد مصدراً، ذلك أن شخص المسيح ـ عليه السلام ـ لم يحظَ باهتمامِ مَن دونوا التاريخ من أتباعه، فحياةُ المسيح ـ عليه السلام ـ مجهولةٌ في كثير من مراحلها، لم يعثر العقّاد على شيءٍ ينسب إليه علم المسيح ـ عليه السلام ـ فراح يُخمن.. راح يتكلم بالظنون!!
يقول: ربما في كُتَّابِ القرية، أو من يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا)، مع أن يحيى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ على ما تذكر الأناجيل وما يعترف به عباس العقاد لم يُلْقِ إلى المسيح إلا كلمات معدودات، ولو سلمنا بأن الذي علمه هو يحى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ فمن علم يحى ـ عليه السلام ـ ومن علم زكريا ـ عليه السلام ـ ؟!
لا تجد إجابة عند العقاد، فقد يريد أن يثبت العبقرية للمسيح ـ عليه السلام ـ وأنه تعلم من تلقاء نفسه أو ممن حواليه، ليقول أن ما تم على يد المسيح ـ عليه السلام ـ ما هو إلا مجهود ذاتي.. عبقرية!!
ويقول: "ومن الخلوة في البرية (التي عالجها كل نبي قبل أن يصدع بما أمر الله به، وقبل أن يستيقن أن ما أمَّر به من عند الله" (31)، ويقول بعد كلامٍ مرسل عن فترة الخلوة في البرية "وإن فترة الخلوة في البرية على أثر ذلك كانت فترة اعتكاف لاستخلاص الحقيقة من أعماق الضمير... وعندنا أنفس خبر يعين على التعريف بمنهاج الإيمان في نفس الرسول العظيم هو هذا الخبر عن تجربة الوحدة في البرية..." (32).
والخلوة في البرية التي يتكلم عنها العقاد أمرها عجيب جداً، قد يذهب بعقلك.
لم تكن خلوة كما يدعي العقاد ، وإنما ـ حسب رواية الأناجيل ـ تسلط الشيطان على ربهم ـ الذي هو المسيح بزعمهم الكاذب ـ أربعين يوماً وساح به في البرية يصعد به ويهبط، ويدخل به ويخرج، ويأمره وينهاه.
الشيطان تسلط على ربهم أربعين يوماً... هذا قولهم!!!
وهم لا يجدون ما يعتذرون به، إلا كلاماً يَضحَكون به على أتباعهم ويُضحِكون به مخالفيهم. ويأتي العقاد يُضحكنا عليه بسذاجته واستغفاله لمن يقرأ حين يدعي أنها كانت خلوة في البرية تعلم منها المسيح ـ عليه السلام ـ!!
موسى عليه السلام:
وموسى ـ عليه السلام ـ علمه بشر أيضاً عند العقاد، يقول: "موسى الكليم الذي تتلمذ على حمية نبي مدين قبل جهره بدعوته وبعد أن جهر بهذه الدعوة في مصر وخرج بقومه منها إلى أرض كنعان، ولكنهم أخذوها وسلموها فنقصوا منها ولم يزيدوها" (33).
ونجد في كلامه ما يُبين أن الرجل ينكر الوحي من الله لأنبيائه مثل "هنا موقف من المواقف التي نسميها موقف استلهام الغيب واستخارة الحوادث" (34).
ومثل: "ولم تكن النبوءة بإذن من ذوي السلطان أمراء كانوا أو كهاناً أو شيوخاً مطاعين في القبيلة، بل يمتلئ يقين الإنسان بالإيحاء إليه فيمضي في تبليغ وحيه ولا يقوى أحياناً على كف لسانه" (35).
ومثل: "وإن الإنسان المتهيئ للنبوءة كان يخشى أن يسكت عن الدعوة متى جاشت ضمائره بحوافزها وألحت عليه أياماً بعد أيام" (36).
ومثل: قوله عن إبراهيم عليه السلام: "اختبر حياة الشرك واختبر شعائره وفرائضه، وخلصت له الهداية بالخبرة والهداية الإلهية" (37).
ومثل: "أما ديانات الأنبياء فلا وجود لها في غير السلالة العربية، والاختلاف بينها وبين الديانات الأخرى أن النبي لا يعينه أحد ولا ينبعث بأمر أحد، ولكنه ينبعث بباعث واحد من وحي ضميره ووحي خالقه" (38).
ووحي خالقه لا يفهم منها نزول ملك الوحي جبريل على النبي، أيِّ نبي، كما فهذا بين في كلامه كما تقدم، وإنما الوحي عنده أقرب ما يكون للوحي بمعنى الإلقاء في النفس.
غاندي (نبي الهند)!!
وغاندي الهندي (نبي الهند) كما يسميه عباس العقَّاد، كانت عبقريته ـ أو نبوته ـ وراثية (رضعها من ثدي أمه قبل أن يتعلمها من مرشد إلى أدب، أو مبشر بدين)، كما يدعي العقّاد.
وفي غاندي الهندي عابد البقرة كما يصوره لنا عباس العقاد عجيبة تنقض ما مضى كله في العبقريات، بعد أن قرر عباس العقّاد أن ما كان بغاندي الهندي جاءه من أمه وأبيه وكان في أخته وأخيه، وهو ما جرى عليه في الحديث عن (العباقرة)، بعد أن قرر هذا استدار عليه من قريب وراح ينقضه، فذكر أن ما كان بغاندي الهندي عابد البقرة من عبقرية جاءه من الملة التي كان ينتحلها [الجينية] فغاندي ـ عند العقاد ـ (ورث دواعي الثورة على ـ السيادة الغالبة ـ من عقيدة الجينية) (39) فـ (عقيدة غاندي هي أهم شيء في بنيان شخصيته) (40).
وهذا تردد وتخبط؛ فلا أدري (عبقرية) غاندي المزعومة من ثدي أمه وفرجها؟، أم من عقيدته التي كان يدين بها؟!،
العقاد متردد، وأفرد صفحات كثيرة في كتابه عن غاندي الهندي عابد البقرة ليقول فيها بأن الذي صاغ هذا (النبي) ـ بزعم العقاد الكاذب ـ هو عبادته للبقرة وقوله بالحلول والاتحاد، والعودة للحياة الدنيا، وأن الحياة سدى فلا هم يحشرون ولا هم يحاسبون.
أقول: وما بال العقيدة هنا هي صاحبة العبقرية وعند عباقرة الإسلام ليست كذلك؟!
إنه عباس العقّاد متردد كعادته!!
بل وما بال غاندي الهندي عابد البقرة (نبياً) (عبقرياً)؟!
غاندي ـ بما يرويه عنه العقَّادُ ـ شبَّ جباناً يخاف أن يخرج من بيته، وإن خرج يخاف من ظله، وإن دخل يخاف الظلام في البيت؛ وغاندي لص مارس السرقة مرات، وغاندي عربيد لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وغاندي في دراسته غبي بليد، لم يكن يحفظ إلا بشق الأنفس، وغاندي في وظيفته فاشل لم ينجح حتى ارتبط بالإنجليز مساعداً لهم يركلوه ويهينوه حتى كادوا أن يحرقوه، وغاندي كان متناقضاً في وصاياه وأعماله (41)، ثم هو عبقري (42)، ومعجزة من معجزات الزمان!!
من أين؟، وكيف يكون مثل هذا عبقرياً في حس العقاد؟
ويلحق بإنكار العقاد للوحي ، بمعناه المتبادر للذهن، وهو نزول الرسالة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بواسطة أمين الوحي جبريل ـ عليه السلام ـ ، يلحق بذلك إنكار العقاد لأثر العقيدة في حياة الناس. وهذا هو موضوع الموضوع القادم إن شاء الله وقدر.
ويوم الحديبية عزم خالد بن الوليد ـ وكان على رأس خيل قريش ـ أن يغير على المسلمين حال صلاتهم العصر، وتكلم هو وأصحابه بأن للمسلمين صلاةً (العصر) هي أحب إليهم من أبنائهم وأموالهم (15)، وتقول الروايات بأن جبريل نزل من السماء وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يفكر فيه خالد وأصحابه، فصلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأصحابه صلاة الخوف (16)، فعلم خالد أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممنوع، وحاول خالد أن يغدر بالمسلمين بغير هذه الوسيلة.. كان عازماً على الحرب سالكاً أسبابها، وعباس العقَّاد لا يعرف هذا، بل يسند الفعل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تلقاء نفسه عرف ما ينويه خالد وأصحابه، يقول العقاد على لسان خالد بن الوليد: "هممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا، وكان فيه خيرة، فاطلع على ما في أنفسنا من الهجوم به، فصلى بأصحابه العصر صلاة الخوف" (17)، وقبل هذا النص بسطرين يقول: "وهمَّ خالد أن يغير عليه لولا نخوة من الفروسية أبت له العدوان على المسالم وقمعت فيه طمع الرئيس الموتور"، وهذا تضارب فلا ندري هل مُنع الرسول صلى الله عليه وسلم من خالد بخيريته التي علم بها كما يدعي فيما ينقله عن خالد؟، أم أن خالدا كف شره بموجب حسن الخلق الذي يتمتع به كما يزعم العقاد؟
ولو نقل الرواية التي نقلها ابن حجر في شرح حديث البخاري (3817) وهي أشهر وأوضح وفيها أن جبريل هو الذي أخبر النبي لكان أولى به وأفضل.
نعيم بن مسعود:
ويقول بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربما بلغ برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة، وبالمكاتب والدواوين، وبدر الأموال، ويضرب مثالا بـ نعيم بن مسعود ـ رضي الله عنه (18).
والعقاد يقف منفرداً كما هي عادته، فهو أول من قال أن ما كان من نعيم بن مسعود هو بتدبير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد راجعت ما لا يقل عن عشرين مصدراً للسيرة والحديث والتفسير كلهم على أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يزد على أن قال لنعيم بن مسعود كلمة واحدة: "إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت"، وما درى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء بعد ذلك.
بل يصرحون بأن ذلك كان من تدبير الله عز وجل؛ يقول بن القيم: "ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم به جموعهم وفلَّ به حدهم فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر..." (19)، وابن هشام بعد سرد القصة يقول: "وخذَّل بينهم" (20). ينسب الفعل لنعيم بن مسعود. والعقاد ينسب الفعل للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكأنه خطط له ودبر، وكأنه هو الذي جاء بنعيم بن مسعود وهو الذي رسم له الخطة وأعانه على تنفيذها، كل ذلك لأن الرجل لا يرى أثر الوحي.
وهو متردد كعادته ففي مكانٍ آخر أسند الفعل إلى نعيم بن مسعود لا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
العقاد يُعِّرف الرسول!!
يسأل في بداية (عبقرية محمد) من هو الرسول؟ ويجيب: "هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس، لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعاً يأمرهم بالحسن وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم".
لاحظ: لا تسمع حسّاً للوحي في كلامه!!
العقاد يعرف البلاغ المبين:
ويتكلم عن البلاغ، ويأتي بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عرفة (اللهم هل بلغت اللهم فاشهد) ويحور ويدور ليعطي البلاغ معناً غير الوحي.. غير البلاغ عن الله، يفسر البلاغ بالإبلاغ.. البلاغ عند العقاد أسلوب من أساليب التعبير يستطيع بها المتكلم أن يوصل المعنى من أقصر طريق وأوضحه!!
كل هذا لينكر الوحي، وليقول بنظرية (الوعي الكوني) والتي من صِوَرِها (العبقريات) أو لينتصر للفردية، وهي منهجه في التفكير، وقضيته الرئيسية التي كتب من أجلها العبقريات.
وكل الشريعة وكل الملتزمين بها، بل وكل المنصفين من الناطقين بالضاد، يتجمعون في وجه العقاد رفضاً لكلامه، فهو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ورسول تعني مرسول من عند الله برسالة، وفي التنزيل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [سورة التغابن: 12]، {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [سورة العنكبوت: 18]، {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [سورة النور: 54]، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [سورة النحل: 82]، {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة النحل: 35]، {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة: 92].
وعلى لسان الرسل يقول الله تعالى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [سورة يس: 17].
والبلاغ المبين هو : الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها (21)، أو هو الَّذِي يُبِين عن معناه لمن أَبْلَغَهُ (22)، ويفهمه من أُرْسِلَ إليه (23).
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأتنا فقط بألفاظ القرآن بل بألفاظ القرآن وبمراد الله من هذه الألفاظ.
والصحابة رضوان الله عليهم لم يتلقوا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط منطوق القرآن الكريم ثم ذهبوا يفهمونها كما شاءوا، لا، بل كانوا يتعلمون الإيمان ثم يضبطون ما فهموه بالقرآن الكريم كما جاء في الحديث. عن جُنْدُبِ بن عبد الله قال كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ــ ونحن فتيان حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا (24).
وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أَبِي عبد الرحمن(25) قال: حدثنا من كان يُقْرِئُنَا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم كانوا يَقْتَرِئُونَ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.
والمراد: أن الصحابة رضوان الله عليهم تلقوا (نص) ـ منطوق ـ وتلقوا معنى، وهذا كله هو ما جاءنا من الله على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، هذا كله ما نحن ملزمين به ـ كتابعين لهؤلاء الكرام ـ . قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سورة النساء: 115].
وقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137].
فالصحابة هم من أراد الله بوصف المؤمنين في هذه الآيات ذلك أن الله عز وجل شهد لهم بالإيمان في آيات أخرى من كتابه (26) قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة: 100].
وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [سورة الفتح: 18].
عبادة النبي مصدرها الجاهلية!!
ويدَّعي عباس العقَّاد أن عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيامه وصيامه، لم يكن شيئاً من ذلك بتعاليم الوحي، يقول تحت عنوان (العابد): "تهيأ للعبادة بميراثه ونشأته وتكوينه؛ فولد في بيت السدانة والتقوى وتقدمه آباء يؤمنون ويوفون بإيمانهم، ويعتقدون ويخلصون فيما اعتقدوه.." (27).
وهو جاهل أو كذّاب فَسَدَانَةُ البيت لم تكن في بني عبد المطلب، ولا في بني عبد المناف وإنما كانت في بني عبد الدار، وحديث رد مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة معروف مشهور (28).
وأكد مراراً على أن ما كان بأبي بكر هو خلق أصيل فيه "أدب الطبع الذي يهتدي من نفسه بدليل".. "يدري بوحي نفسه"!! (29).
ولم تكن عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشبهها شيء من فِعال أهل الجاهلية، لا في قريش ولا في غيرها، أكانوا يركعون ويسجدون؟، أم كانوا يصومون؟، أو كان يحج كما يحجون؟!
العقاد لا يرى الوحي هذه حقيقة ثابتة في كل كتاباته عن أنبياء الله، وليس فقط عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، فالأنبياء (العباقرة)، تعلموا من البيئة أو من تلقاء أنفسهم أو من شيءِ آخر ولكن ليس من الوحي بالمعنى الذي نعرفه!!
وهو يتكلم عن المسيح عليه السلام يقدم بمقدمة طويلة عن موطن المسيح (الجليل أو فينيقية أو كنعان) وكيف أنها كانت مدينة قوافل تجارية، وكيف أن المسيح عليه السلام ولد في بيئة عرفت التسامح وتنكرت للجمود، وحضرت الثورات، وحضر زوال مُلك مَلِكٍ وقيام مُلْكٍ لملك آخر، يقدم ذلك كله وكأنه هو الباعث على ما ظهر على يد المسيح ـ عليه السلام ـ من تسامح، ومن ثورة على الأوضاع ورغبة جامحة في تغيرها (30).
وهذا الفرض يكذبه العقاد نفسه، فكم تكلم عن جشع (العشارين)، وكم تكلم عن طوائف يهود (الفريسيين) و ( الصدوقيون).. طبقة المنافقين وطبقة الارستقراطيين كما يسميهم، وفي الأحداث قرينة تكذبه، وهي بعثة يحى عليه السلام، ذلك أنه يرتكز في كل ما يكتب على ضرورة الزمن، فيرى أن كل نبي يبعث بوحي مما حواليه.. يسميه ضرورة الوقت، ويرى أن هذه (ضرورة الوقت) كبرى الأمارات على النبوة، ومن أجلها ينكر النبوات. ويحي ـ عليه السلام ـ وعيسى ـ عليه السلام ـ كانت أوصافهم متضادة ـ كما يحكي العقاد ـ ، أحدهم ـ يحي عليه السلام ـ قوي شديد يعظ الملك وينهره، ويواجه الناس بقوة، والثاني ـ عيسى عليه السلام ـ هين لين .فأيهم (أرسلته) ضرورة الوقت؟!!
لا أدري، ولا إخاله يدي، ولا تبحث فإن كل هذا كالبحث عن الماء فوق تل التراب، وإنه عباس العقاد أذهب الله بركته بإشغاله بما لا ينفع.
عيسى ـ عليه السلام ـ من أرسله؟!
يبحث في نهاية كتابه (حياة المسيح أو عبقرية المسيح)، عن مصدر ما جاء به المسيح ـ عليه السلام ـ ، من أين تعلم؟!
ولا يجد مصدراً، ذلك أن شخص المسيح ـ عليه السلام ـ لم يحظَ باهتمامِ مَن دونوا التاريخ من أتباعه، فحياةُ المسيح ـ عليه السلام ـ مجهولةٌ في كثير من مراحلها، لم يعثر العقّاد على شيءٍ ينسب إليه علم المسيح ـ عليه السلام ـ فراح يُخمن.. راح يتكلم بالظنون!!
يقول: ربما في كُتَّابِ القرية، أو من يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا)، مع أن يحيى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ على ما تذكر الأناجيل وما يعترف به عباس العقاد لم يُلْقِ إلى المسيح إلا كلمات معدودات، ولو سلمنا بأن الذي علمه هو يحى بن زكريا ـ عليهما السلام ـ فمن علم يحى ـ عليه السلام ـ ومن علم زكريا ـ عليه السلام ـ ؟!
لا تجد إجابة عند العقاد، فقد يريد أن يثبت العبقرية للمسيح ـ عليه السلام ـ وأنه تعلم من تلقاء نفسه أو ممن حواليه، ليقول أن ما تم على يد المسيح ـ عليه السلام ـ ما هو إلا مجهود ذاتي.. عبقرية!!
ويقول: "ومن الخلوة في البرية (التي عالجها كل نبي قبل أن يصدع بما أمر الله به، وقبل أن يستيقن أن ما أمَّر به من عند الله" (31)، ويقول بعد كلامٍ مرسل عن فترة الخلوة في البرية "وإن فترة الخلوة في البرية على أثر ذلك كانت فترة اعتكاف لاستخلاص الحقيقة من أعماق الضمير... وعندنا أنفس خبر يعين على التعريف بمنهاج الإيمان في نفس الرسول العظيم هو هذا الخبر عن تجربة الوحدة في البرية..." (32).
والخلوة في البرية التي يتكلم عنها العقاد أمرها عجيب جداً، قد يذهب بعقلك.
لم تكن خلوة كما يدعي العقاد ، وإنما ـ حسب رواية الأناجيل ـ تسلط الشيطان على ربهم ـ الذي هو المسيح بزعمهم الكاذب ـ أربعين يوماً وساح به في البرية يصعد به ويهبط، ويدخل به ويخرج، ويأمره وينهاه.
الشيطان تسلط على ربهم أربعين يوماً... هذا قولهم!!!
وهم لا يجدون ما يعتذرون به، إلا كلاماً يَضحَكون به على أتباعهم ويُضحِكون به مخالفيهم. ويأتي العقاد يُضحكنا عليه بسذاجته واستغفاله لمن يقرأ حين يدعي أنها كانت خلوة في البرية تعلم منها المسيح ـ عليه السلام ـ!!
موسى عليه السلام:
وموسى ـ عليه السلام ـ علمه بشر أيضاً عند العقاد، يقول: "موسى الكليم الذي تتلمذ على حمية نبي مدين قبل جهره بدعوته وبعد أن جهر بهذه الدعوة في مصر وخرج بقومه منها إلى أرض كنعان، ولكنهم أخذوها وسلموها فنقصوا منها ولم يزيدوها" (33).
ونجد في كلامه ما يُبين أن الرجل ينكر الوحي من الله لأنبيائه مثل "هنا موقف من المواقف التي نسميها موقف استلهام الغيب واستخارة الحوادث" (34).
ومثل: "ولم تكن النبوءة بإذن من ذوي السلطان أمراء كانوا أو كهاناً أو شيوخاً مطاعين في القبيلة، بل يمتلئ يقين الإنسان بالإيحاء إليه فيمضي في تبليغ وحيه ولا يقوى أحياناً على كف لسانه" (35).
ومثل: "وإن الإنسان المتهيئ للنبوءة كان يخشى أن يسكت عن الدعوة متى جاشت ضمائره بحوافزها وألحت عليه أياماً بعد أيام" (36).
ومثل: قوله عن إبراهيم عليه السلام: "اختبر حياة الشرك واختبر شعائره وفرائضه، وخلصت له الهداية بالخبرة والهداية الإلهية" (37).
ومثل: "أما ديانات الأنبياء فلا وجود لها في غير السلالة العربية، والاختلاف بينها وبين الديانات الأخرى أن النبي لا يعينه أحد ولا ينبعث بأمر أحد، ولكنه ينبعث بباعث واحد من وحي ضميره ووحي خالقه" (38).
ووحي خالقه لا يفهم منها نزول ملك الوحي جبريل على النبي، أيِّ نبي، كما فهذا بين في كلامه كما تقدم، وإنما الوحي عنده أقرب ما يكون للوحي بمعنى الإلقاء في النفس.
غاندي (نبي الهند)!!
وغاندي الهندي (نبي الهند) كما يسميه عباس العقَّاد، كانت عبقريته ـ أو نبوته ـ وراثية (رضعها من ثدي أمه قبل أن يتعلمها من مرشد إلى أدب، أو مبشر بدين)، كما يدعي العقّاد.
وفي غاندي الهندي عابد البقرة كما يصوره لنا عباس العقاد عجيبة تنقض ما مضى كله في العبقريات، بعد أن قرر عباس العقّاد أن ما كان بغاندي الهندي جاءه من أمه وأبيه وكان في أخته وأخيه، وهو ما جرى عليه في الحديث عن (العباقرة)، بعد أن قرر هذا استدار عليه من قريب وراح ينقضه، فذكر أن ما كان بغاندي الهندي عابد البقرة من عبقرية جاءه من الملة التي كان ينتحلها [الجينية] فغاندي ـ عند العقاد ـ (ورث دواعي الثورة على ـ السيادة الغالبة ـ من عقيدة الجينية) (39) فـ (عقيدة غاندي هي أهم شيء في بنيان شخصيته) (40).
وهذا تردد وتخبط؛ فلا أدري (عبقرية) غاندي المزعومة من ثدي أمه وفرجها؟، أم من عقيدته التي كان يدين بها؟!،
العقاد متردد، وأفرد صفحات كثيرة في كتابه عن غاندي الهندي عابد البقرة ليقول فيها بأن الذي صاغ هذا (النبي) ـ بزعم العقاد الكاذب ـ هو عبادته للبقرة وقوله بالحلول والاتحاد، والعودة للحياة الدنيا، وأن الحياة سدى فلا هم يحشرون ولا هم يحاسبون.
أقول: وما بال العقيدة هنا هي صاحبة العبقرية وعند عباقرة الإسلام ليست كذلك؟!
إنه عباس العقّاد متردد كعادته!!
بل وما بال غاندي الهندي عابد البقرة (نبياً) (عبقرياً)؟!
غاندي ـ بما يرويه عنه العقَّادُ ـ شبَّ جباناً يخاف أن يخرج من بيته، وإن خرج يخاف من ظله، وإن دخل يخاف الظلام في البيت؛ وغاندي لص مارس السرقة مرات، وغاندي عربيد لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وغاندي في دراسته غبي بليد، لم يكن يحفظ إلا بشق الأنفس، وغاندي في وظيفته فاشل لم ينجح حتى ارتبط بالإنجليز مساعداً لهم يركلوه ويهينوه حتى كادوا أن يحرقوه، وغاندي كان متناقضاً في وصاياه وأعماله (41)، ثم هو عبقري (42)، ومعجزة من معجزات الزمان!!
من أين؟، وكيف يكون مثل هذا عبقرياً في حس العقاد؟
ويلحق بإنكار العقاد للوحي ، بمعناه المتبادر للذهن، وهو نزول الرسالة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بواسطة أمين الوحي جبريل ـ عليه السلام ـ ، يلحق بذلك إنكار العقاد لأثر العقيدة في حياة الناس. وهذا هو موضوع الموضوع القادم إن شاء الله وقدر.