بطريركية أنطاكية وسائر المشرق
أقام الرسولان بولس وبرنابا كرسي أنطاكية سنة 42م، إلا أن القديس بطرس الرسول استوى عليه كأول الأساقفة لمدة ثماني سنوات (45-53م) ثم انطلق لتأسيس كنائس أخرى، ولكن ثمة آراء تاريخية وكنسية قوية مدعومة بالحجج الثابتة تفيد أن بطرس الرسول هو الذي أقام الكرسي الأنطاكي بمعاونة الرسولين بولس وبرنابا وقد خلفه على السدة الأنطاكية أفوديوس. وليس بمستغرب أن لقب البطريرك (لفظة تعني رئيس العشيرة) قد لقب به بطرس الرسول، لكون المسيحية في أنطاكية قد انتشرت بين اليهود أولاً، ولأن بطرس كان عملياً زعيم هذه العشيرة. وما إطلاق تسمية البطريرك من قبل مجمع خلقيدونية (451م) على أسقف أنطاكية وحده دون سائر أساقفة الكراسي الأخرى (روما والقسطنطينية والإسكندرية وأورشليم) إلا تكريساً لهذا الأمر الواقع. لذلك جاز لنا يقيناً اعتبار القديس بطرس الرسول أول البطاركة على كرسي أنطاكية.
وكما خرج بطرس من أنطاكية عام 53م ليؤسس كرسي روما ويستشهد فيها أيام نيرون، كذلك خرج بولس وبرنابا، إضافة إلى مرسلين عديدين خرجوا من أنطاكية إلى كل أقطار المسكونة يبشرون بالدين الجديد. لأن أنطاكية مع دمشق، كانتا بوابتي عبور المسيحية إلى كل العالم المعمور، وخصوصاً باتجاه الشرق، حيث زرع مبشروها بذار الدين المسيحي، مما جعل لها حقوقاً شرعية على الكنائس الجديدة في تلك الأصقاع. لذلك نرى أسقف (بطريرك) أنطاكية متقدماً منذ العهود المسيحية الأولى على سائر أساقفة الشرق، فهو الذي ترأس المجامع المكانية في الشرق (أنقرة 351م، قيصرية 316م)، واعترف المجمع المسكوني الأول (نيقية، 325م) لكنيسة أنطاكية بالرئاسة على سائر أساقفة الشرق. وثبت المجمع المسكوني الثاني (القسطنطينية، 381م) هذه الرئاسة، في حين قرر المجمع المسكوني الثالث (أفسس، 431م) استقلال كنيسة قبرص عن أنطاكية برئاسة رئيس أساقفة.
مرت بالكرسي الأنطاكي المقدس حوادث عاصفة عبر تاريخه العريق، سلخت من حظيرته أبناء أحباء. إذ كان أول انفصال في كرسي أنطاكية عام 498م، هو الذي فصل النساطرة، بعد حرم مجمع أفسس (431م). وتلا ذلك انفصال السريان والأرمن عن أنطاكية، نتيجة رفضهم لمقررات مجمع خلقيدونية. وبعد ذلك، وفي الحروب الصليبية، انفصل الموارنة عن أنطاكية وأقاموا يوحنا مارون بطريكاً عليهم (685م). ومنذ منتصف القرن الثامن، طالبت الكنيسة الكرجية الأرثوذكسية باستقلالها عن الكرسي الأنطاكي، وحصلت عليه عام 1050م، وأصبحت كنيسة أرثوذكسية مستقلة.
وفي الفترة الممتدة من الفتح العربي لأنطاكية والمنطقة عام 637م، وحتى غزو الفرنجة عام 1098م، مروراً بالعصر البيزنطي الثاني، حافظ الكرسي الأنطاكي على ألقه وتوهجه، في حين نال على يد الفرنجة نصيباً وافراً من النكبات. وحتى اندحار الفرنجة وسقوط أنطاكية عام 1268م، كان البطاركة الأنطاكيون يقيمون في القسطنطينية، إلا أن الكرسي الأنطاكي هجرها منذ احتلال الفرنجة لها متجولاً في آسية الصغرى حتى عام 1342م، حين تقرر نقله إلى دمشق أهم مدينة في بلاد الشام، وتالية أنطاكية من حيث مكانة أسقفها. وكان أسقف دمشق حينئذ يواكيم، وترتيبه 58 بعد حنانيا الرسول أول أساقفتها.
وفي هذه الفترة قدم الحكم العثماني لبلاد الشام التسهيلات للتبشير البابوي المنتظم، وكان واقع الكرسي الأنطاكي المقدس حينها رديئاً جداً كواقع أبنائه الذين خضع بعضهم لإغراءات المبشرين المادية. وهذا ما دعا البطاركة والمطارنة الأرثوذكس إلى التوجه نحو أوربة الشرقية الأرثوذكسية لجمع التبرعات، ومنهم البطريرك " مكاريوس بن الزعيم"، الذي استطاع وفاء الديون، وتطوير المدرسة البطريركية "الآسية"، وتجديد الدار البطريركية.
وبسـبب وجود الكثلكة، وتأثيرها على الانتخابات البطريركية، ارتأى الشـعب والأسـاقفة الأرثوذكس، للحفاظ على أرثوذكسية الكرسي الأنطاكي، الطلب إلى البطريركية المسكونية إرسال بطريرك يوناني، وقد استمر الوجود اليوناني على السدة الأنطاكية الأرثوذكسية منذ عام 1724م وحتى عام 1898م. نتيجة للضغط الشعبي المتعاظم، وقد كان البطريرك ملاتيوس الأول ( الدوماني) الدمشقي أول بطريرك عربي.
وكانت ولاية الكرسي الأنطاكي المقدس في القرون المسيحية الأولى حتى الانشقاقات السالف ذكرها تشتمل على كل آسيا وبلاد المشرق والهند. وكان يمثل البطريرك في كل من الهند وأرمينيا وبلاد الكرج (جورجية) وبلاد فارس وبلاد بابل (كاثوليكوس) منتدب مفوض بصلاحيات البطريرك.
أما اليوم فتشتمل ولاية الكرسي على الجمهوريتين الشقيقتين السورية واللبنانية، إضافة إلى العراق وبلاد الجزيرة العربية وأجزاء من تركيا وعلى الجاليات الأنطاكية المهاجرة في الأمريكتين واستراليا وأوروبا.