مقاطع من كتاب الاجنحة المكسرة
ان للجمال لغة سماوية تترفّع عن الاصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والالسنة، لغة خالدة تضم اليها جميع انغام البشر تجعلها شعوراً صامتاً مثلما تجتذب البحيرة الهادئة اغاني السواقي الى اعماقها وتجعلها سكوتاً ابدياًّ.
ان الجمال سرّ تفهمه ارواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، اما افكارنا فتقف امامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالالفاظ ولكنّها لا تستطيع. هو سيال خافٍ عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور. الجمال الحقيقي هو اشعة تنبعث من قدس اقداس النفس وتنير خارج الجسد مثلما تنبثق الحياة من اعماق النواة وتكسب الزهرة لوناً وعطراً- هو تفاهم كلّي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة، وبلحظة يولد ذلك الميل المترفّع عم جميع اليمول- ذلك الانعطاف الروحي الذي ندعوه حبّاً.
ان النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها الى نفس اخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالاحساس مثلما يستأنس الغريب بالغريب في ارض بعيدة عن وطنهما- فالقلوب التي تدنيها اوجاع الكآبة بعضها من بعض لا تفرقها بهجة الافراح وبهرجتها. فرابطة الحزن اقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور. والحب الذي تغسله العيون بدومعها يظلّ طارهاً وجميلاً وخالداً.
ومرت دقائق وكلانا صامت مفكّر يترقب الاخر ليبدأ بالكلام. ولكن هل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الارواح المتحابة؟ هل هي الاصوات والمقاطع الخارجة من الشفاه والالسنة التي تقرّب بين القلوب والعقول؟ افلا يوجد شيء لسمى مما تلده الافواه واطهر مما تهتز به اوتار الحانجر؟ السيت هي السكينة التي تفصلنا عن ذواتنا فنسبح في فضاء الروح غير المحدود، مقتربين من الملأ الاعلى، شاعرين بأن اجسادنا لا تفوق السجون الضيقة، وهذا العالم لا يمتاز عن المنفى البعيد؟
كل شيء عظيم وجميل في هذا العالم يتولّد من فكر واحد او من حاسة واحدة في داخل الانسان. كلّ ما نراه اليوم من اعمال الاجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكراً خفيّاً في عاقلة رجل او عاطفة لطيفة في صدر امرأة... الثورات الهائلة التي اجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تعبد كالآلهة كانت فكراً خيالياً مرتعشاً بين تلافيف دماغ رجل فرد عائش بين الوف من الرجال. والحروب الموجعة التي ثلت العروش وخربت الممالك كانت خاطراً يتمايل في رأس رجل واحد. والتعاليم السامية التي غيرت مسير الحياة البشرية كانت ميلاً شعريّاً في نفس رجل واحد منفضل بنبوغه عن محيطه. فكر واحد اقام الاهرام وعاطفة واحدة خربت تروادة وخاطر واحد اوجد مجد الاسلام وكلمة واحدة احرقت مكتبة الاسنكدرية
ما اجهل الناس الذين يتوهّمون ان المحبة تتولد بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرة. ان المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحي وان لم يتم هذا التفاهم الروحي بلحظة واحدة لا يتم بعام ولا بجيل كامل
ان حياة الانسان لا تبتدىء في الرحم كما انها لا تنتهي امام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء باشعة القمر والكواكب لا يخلو من الارواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم
جبران خليل جبران