كنت أقفُ على الناصية..وعلى كتفي تتدلى حقيبتي الجلديّة التي أحملُ فيها آلة التصوير وكتباً وأوراقاً زرقاءَ وبعضَ لفافات التبغ..
كانت دمشقُ مازالت غافية..بينما أنتظر صاحب كشك الجرائد حتى يبدأ يومه..سأكون زبونهُ الأوّل..سأبتاعُ جريدةً أو اثنتين..ثمّ سأمضي إلى مقهى الهافانا..انهُ ليسَ بعيداً من هنا..فنجان قهوةٍ كبير..سيكون جيّداً في هذا الوقت الباكر..
اليمامُ يصدحُ ملقياً تحيّة الصباح على أرصفة دمشق العتيقة..يمتزجُ بالشرفاتِ الصغيرة..والشبابيك.. تأملتُ هذا الهدوء الساحر..والفخم..استرجَعَت ذاكرتي..صوتَ خُطايَ على حجارة الرصيف..وانتابني الغرورُ حين همستُ لنفسي..إنّ دمشقَ استيقظت على صوتِ خطايَ ..هذا الصباح..
دخلتُ المقهى وقصدتُ طاولةً تجاور الرصيف..ما الذي يعنيه المقهى بدون الأرصفة؟..لطالما تأملتُ الأرصفةَ لساعاتٍ وساعات من نوافذ المقاهي..وأحببتها..وكرهتها..وحفظتها..ونسيتها..لطالما حدّثتها وأطلقتُ عليها أسماءاً ..
المقهى والرصيف...ثنائيّةٌ أخرى تُضافُ إلى ثنائيّاتٍ كثيرة نحبُّ أن نثرثرَ عنها بشكلٍ يوميّ ومستمر..
سريعاً..انتشرَ دخان سيجارتي في الفراغ..بينما فردتُ الصحيفة..وكعادتي دائماً..أتجاهل العناوين الرئيسيّة..وأعمدةَ رؤساء التحرير..الذين أجدهم ..كاذبين..لأقصد بعض المقالات الثقافية والأدبية التي لا زالت تجد لها مكاناً لا يحبّه المعلنون..أقرؤها بينما يحضر فخامة فنجان القهوة..هذا الصديق النبيل والمهذَّب..
أتخمتني اللهجة العراقية التي انهالَت عليَّ من كل صوب..لأجد نفسي بعد وقت قصير السوريّ الوحيد بين الموجودين من روّاد المقهى..راحوا يتهافتون على المقهى ..حاملين جرائدهم وصخبهم..لم أكترث..للوهلة الأولى..ثمّ شعرتُ بانزعاج..ربّما لأنني لم أعتد على ذلك بعد..وربّما لأنني لا أملك موقفاً واضحاً من هذه القضيّة..وأقصد التواجد العراقيّ الكثيف في دمشق..أعرفُ أنّ دمشق عاصمةٌ تحتضن الجميع..وتجير من يحتاج..فهي راقيةٌ إلى هذا الحد.. وطيّبةٌ..إلى هذا الحد..ومتحضّرةٌ..ورائعةٌ إلى هذا الحد...وهي تتشارك ذلك مع أهلها..وأعرفُ أنّ ما مرَّ به الإنسان العراقيُّ ككل..قد لا يستوعبه العقل..فهو القسوة بعينها..وهو عارٌ سيجلّل الإنسانية لعصورٍ قادمة..
ولكنني من ناحيةٍ أخرى..أجدُ نفسي معذوراً في حبّي الأنانيّ لدمشق..بل هي أشبهُ ما تكون بغيرةِ المُحِبّ على المحبوب..فبغدادُ لن تكون أحلى حين تتحدّثُ اللهجةَ الشاميّة..أستطيعُ أن أشبّه الأمر..بالرائحةِ والنكهةِ التي تُمايزُ أنواعَ النبيذ عن بعضها..فلكلّ مدينةٍ..نكهتها الخاصّة والتي تتفرَّدُ بها دون غيرها..ورائحةٌ..تصبحُ هي اسم المدينةِ وعنوانها..وصندوق بريدها..
................................................
تفقّدتُ آلة التصوير..الفيلم في مكانهِ والعدسةُ نظيفةٌ ومستعدّة..ودمشق هنا ترتدي فستانها الجميل..حين أذهب لألتقط الصور في دمشق..أذهبُ كعاشقٍ يحتاجُ إلى قُبلة..إلى عناقٍ قصيرٍ وحسب..إلى تأمّل وجه الحبيبة..الحبيبةُ التي لا تتركني..ولا تتخلّى عنّي..في دمشق..أقابلُ جميع حبيباتي اللواتي..أشتاقُ إليهنّ..ولا أعرف عنهنَّ أيّ خبر..هناكَ أفتقدهنَّ بلا حزن..بلا شعورٍ..بالخسارة..
أسافرُ في التفاصيل..وبرغم أنّي أحفظها كأناشيد الصفّ الأوّل..ولكنني أشاهدها من جديد بانطباعٍ جديد..يأخذني دائماً..إلى السحر والإعجاب..أنا يا دمشقُ مُعجبٌ مجهول..لا يتقنُ الكلامَ الجميل..لا يتقنُ التعبير عن الفرح..كما يفعلُ عصفور الصباح..بل أتلعثَمُ فقط..وأنت تعرفينَ..بل أنت التي تعرفين..متى يتلعثمُ الرجل!!
أنزلتني سيارة الأجرة أمام النفق الصغير الذي يؤدي إلى سوق الحميدية الجميل..وحين نزلتُ السلّم إليه..وجدتُ الباعةَ أو ربّما الصبيان..ينادونَ على بضائعهم..بل ويلقون النكات بين لحظةٍ وأخرى..وهم يحملون فوقَ سواعدهم نماذج مما يحتويه المتجر..وكل ذلك يدخلُ في باب الشطارة..فعبارة التاجر الشاطر رافقت تجّار دمشق على مرّ العصور..
وجدتُ نفسي بعد أن ارتقيتُ السلّمَ الكهربائي..في حضرة صاحب السعادة..(السوق العتيق)
ذلك الانفراجُ الواسعُ للبوابة..يخبركَ أن التاريخَ مرَّ من هنا..وفي داخل عينيك..تستيقظُ العصور وتسبقكَ إلى الظلال الشاهدة على ما كان..وعلى ما سيكون أبداً..هناك تهاجمكَ بكلّ رقّة..رائحةٌ لا تستطيعُ تفسيرها ولا تعليلها..طيّبةٌ وعذبة..ولا تغادرُ قماشَ ذاكرتكَ بعدها..أبدا...
فتدركُ أنّ دمشقَ قبّلَت جبينكَ للتو..
وجوهٌ وخُطا تأتي وتذهب..على الزقاق الواسع المرصوف بعناية ..ملامحُ من كلّ حدبٍ وصوب..تأتي من كلِّ فَجٍّ عميق..لتحجَّ إلى هذا الحُسن البهيّ..لتنال امتياز التواجد هنا..وجوهٌ تتفحّصها الشمس المتسللةُ من ثقوب السقف المنحني..وسوى هنا كيفَ يصبحُ ثقبٌ في قطعةٍ من حديد..جزءاً من التاريخ الثرّ..؟؟!! آثارُ..من لفظتهم دمشقَ أذلاّءَ مُهانين..في أوائل القرن العشرين..
خرجت من ظلال السوق..الى ساحة الأمويّ العظيم..سلّمتُ على حماماتهِ الهادلةِ واحدةً واحدة..وقفتُ جانباً أراقبُ موكبَ بني أميّة..ها هو مروان..ها عبد الملك..ها هشام..رنّت في عمق مخيلتي أجراس فيروز الناعمة..\أمويّون..فإن ضقتِ بهم..ألحقوا الدنيا ببستان هشام\
و\أنا صوتي منك يا بردى\..وأخذني اللحن الرقيق الى حالةٍ صوفيّة مطلقة..نعم تصوّفتُ لدمشق..وفيها..وبها..ومشيت..من زقاقٍ لزقاق..ومن سوقٍ لسوق..دمشق..قارورةٌ لملايين العطور..فماذا بعد هذا ...يُقال..
[b]
كانت دمشقُ مازالت غافية..بينما أنتظر صاحب كشك الجرائد حتى يبدأ يومه..سأكون زبونهُ الأوّل..سأبتاعُ جريدةً أو اثنتين..ثمّ سأمضي إلى مقهى الهافانا..انهُ ليسَ بعيداً من هنا..فنجان قهوةٍ كبير..سيكون جيّداً في هذا الوقت الباكر..
اليمامُ يصدحُ ملقياً تحيّة الصباح على أرصفة دمشق العتيقة..يمتزجُ بالشرفاتِ الصغيرة..والشبابيك.. تأملتُ هذا الهدوء الساحر..والفخم..استرجَعَت ذاكرتي..صوتَ خُطايَ على حجارة الرصيف..وانتابني الغرورُ حين همستُ لنفسي..إنّ دمشقَ استيقظت على صوتِ خطايَ ..هذا الصباح..
دخلتُ المقهى وقصدتُ طاولةً تجاور الرصيف..ما الذي يعنيه المقهى بدون الأرصفة؟..لطالما تأملتُ الأرصفةَ لساعاتٍ وساعات من نوافذ المقاهي..وأحببتها..وكرهتها..وحفظتها..ونسيتها..لطالما حدّثتها وأطلقتُ عليها أسماءاً ..
المقهى والرصيف...ثنائيّةٌ أخرى تُضافُ إلى ثنائيّاتٍ كثيرة نحبُّ أن نثرثرَ عنها بشكلٍ يوميّ ومستمر..
سريعاً..انتشرَ دخان سيجارتي في الفراغ..بينما فردتُ الصحيفة..وكعادتي دائماً..أتجاهل العناوين الرئيسيّة..وأعمدةَ رؤساء التحرير..الذين أجدهم ..كاذبين..لأقصد بعض المقالات الثقافية والأدبية التي لا زالت تجد لها مكاناً لا يحبّه المعلنون..أقرؤها بينما يحضر فخامة فنجان القهوة..هذا الصديق النبيل والمهذَّب..
أتخمتني اللهجة العراقية التي انهالَت عليَّ من كل صوب..لأجد نفسي بعد وقت قصير السوريّ الوحيد بين الموجودين من روّاد المقهى..راحوا يتهافتون على المقهى ..حاملين جرائدهم وصخبهم..لم أكترث..للوهلة الأولى..ثمّ شعرتُ بانزعاج..ربّما لأنني لم أعتد على ذلك بعد..وربّما لأنني لا أملك موقفاً واضحاً من هذه القضيّة..وأقصد التواجد العراقيّ الكثيف في دمشق..أعرفُ أنّ دمشق عاصمةٌ تحتضن الجميع..وتجير من يحتاج..فهي راقيةٌ إلى هذا الحد.. وطيّبةٌ..إلى هذا الحد..ومتحضّرةٌ..ورائعةٌ إلى هذا الحد...وهي تتشارك ذلك مع أهلها..وأعرفُ أنّ ما مرَّ به الإنسان العراقيُّ ككل..قد لا يستوعبه العقل..فهو القسوة بعينها..وهو عارٌ سيجلّل الإنسانية لعصورٍ قادمة..
ولكنني من ناحيةٍ أخرى..أجدُ نفسي معذوراً في حبّي الأنانيّ لدمشق..بل هي أشبهُ ما تكون بغيرةِ المُحِبّ على المحبوب..فبغدادُ لن تكون أحلى حين تتحدّثُ اللهجةَ الشاميّة..أستطيعُ أن أشبّه الأمر..بالرائحةِ والنكهةِ التي تُمايزُ أنواعَ النبيذ عن بعضها..فلكلّ مدينةٍ..نكهتها الخاصّة والتي تتفرَّدُ بها دون غيرها..ورائحةٌ..تصبحُ هي اسم المدينةِ وعنوانها..وصندوق بريدها..
................................................
تفقّدتُ آلة التصوير..الفيلم في مكانهِ والعدسةُ نظيفةٌ ومستعدّة..ودمشق هنا ترتدي فستانها الجميل..حين أذهب لألتقط الصور في دمشق..أذهبُ كعاشقٍ يحتاجُ إلى قُبلة..إلى عناقٍ قصيرٍ وحسب..إلى تأمّل وجه الحبيبة..الحبيبةُ التي لا تتركني..ولا تتخلّى عنّي..في دمشق..أقابلُ جميع حبيباتي اللواتي..أشتاقُ إليهنّ..ولا أعرف عنهنَّ أيّ خبر..هناكَ أفتقدهنَّ بلا حزن..بلا شعورٍ..بالخسارة..
أسافرُ في التفاصيل..وبرغم أنّي أحفظها كأناشيد الصفّ الأوّل..ولكنني أشاهدها من جديد بانطباعٍ جديد..يأخذني دائماً..إلى السحر والإعجاب..أنا يا دمشقُ مُعجبٌ مجهول..لا يتقنُ الكلامَ الجميل..لا يتقنُ التعبير عن الفرح..كما يفعلُ عصفور الصباح..بل أتلعثَمُ فقط..وأنت تعرفينَ..بل أنت التي تعرفين..متى يتلعثمُ الرجل!!
أنزلتني سيارة الأجرة أمام النفق الصغير الذي يؤدي إلى سوق الحميدية الجميل..وحين نزلتُ السلّم إليه..وجدتُ الباعةَ أو ربّما الصبيان..ينادونَ على بضائعهم..بل ويلقون النكات بين لحظةٍ وأخرى..وهم يحملون فوقَ سواعدهم نماذج مما يحتويه المتجر..وكل ذلك يدخلُ في باب الشطارة..فعبارة التاجر الشاطر رافقت تجّار دمشق على مرّ العصور..
وجدتُ نفسي بعد أن ارتقيتُ السلّمَ الكهربائي..في حضرة صاحب السعادة..(السوق العتيق)
ذلك الانفراجُ الواسعُ للبوابة..يخبركَ أن التاريخَ مرَّ من هنا..وفي داخل عينيك..تستيقظُ العصور وتسبقكَ إلى الظلال الشاهدة على ما كان..وعلى ما سيكون أبداً..هناك تهاجمكَ بكلّ رقّة..رائحةٌ لا تستطيعُ تفسيرها ولا تعليلها..طيّبةٌ وعذبة..ولا تغادرُ قماشَ ذاكرتكَ بعدها..أبدا...
فتدركُ أنّ دمشقَ قبّلَت جبينكَ للتو..
وجوهٌ وخُطا تأتي وتذهب..على الزقاق الواسع المرصوف بعناية ..ملامحُ من كلّ حدبٍ وصوب..تأتي من كلِّ فَجٍّ عميق..لتحجَّ إلى هذا الحُسن البهيّ..لتنال امتياز التواجد هنا..وجوهٌ تتفحّصها الشمس المتسللةُ من ثقوب السقف المنحني..وسوى هنا كيفَ يصبحُ ثقبٌ في قطعةٍ من حديد..جزءاً من التاريخ الثرّ..؟؟!! آثارُ..من لفظتهم دمشقَ أذلاّءَ مُهانين..في أوائل القرن العشرين..
خرجت من ظلال السوق..الى ساحة الأمويّ العظيم..سلّمتُ على حماماتهِ الهادلةِ واحدةً واحدة..وقفتُ جانباً أراقبُ موكبَ بني أميّة..ها هو مروان..ها عبد الملك..ها هشام..رنّت في عمق مخيلتي أجراس فيروز الناعمة..\أمويّون..فإن ضقتِ بهم..ألحقوا الدنيا ببستان هشام\
و\أنا صوتي منك يا بردى\..وأخذني اللحن الرقيق الى حالةٍ صوفيّة مطلقة..نعم تصوّفتُ لدمشق..وفيها..وبها..ومشيت..من زقاقٍ لزقاق..ومن سوقٍ لسوق..دمشق..قارورةٌ لملايين العطور..فماذا بعد هذا ...يُقال..
[b]