نجيبة علي محمود!! .. آخر المتحررين من الأمية في طرطوس
هي الصدفة والإلهام في الوقت الذي نظنه ضائعاً من يضعك وجهاً لوجه مع الآخر، الذي لاتكترث له عادةً ويكون مكتنزاً بكل ما ينقصك: تواضعاً، أملاً غير متكلف، وغايات تضحك منها في البدء لتعود وتجد نفسك خالياً من إنسانيّتها!
جمعني والرائعين إياس وثائر صدفةٌ بحريّة في المقهى الذي سيُقضم باسم الحداثة كما قُضمت مدرسة الحرس القومي ونُهب مجرى نهر الجعم!! المهمّ... كان هاجساً يتأكّل الشابّين ونقلا العدوى إليّ، ففي مناسبة إعلان طرطوس خاليةً من الأميّة، كان الاقتراح الذي أغواني باحتفاليةٍ تستغرق أسبوعاً من عمر بانياس الإلكتروني، تُولى الأهمية خلاله للعربيّة بشكلها الفطري "الفصيح"، وعلى هبّةٍ بحرية لذيذة سقط عليّ لمحٌ ترجمته لعاشقَيّ اللغة:"مارأيكما بلقاءٍ مع متحرّرٍ حديثٍ من الأميّة!!؟"
هاتفتُ _كما في كلّ الأزمات_ الصديقة الغالية والقاصّة الموهوبة "غاندا محمود" لأسألها النصح، ومن أقدر من "غاندا" _ابنة الأمل الذي مازال ريفاً لم يغزهُ الإسمنت_ من توجيهي نحو فئةٍ مجتمعيّةٍ مغمورة لانلتفتُ لها إلا في الندرة...
قالت لي ضاحكة:"ان آخر متحررٍ من الأميّة هو جارك ولاتدري!" بصراحة خفتُ في البداية أن أشدّ الرحال صوب الريف البعيد، وعلى حافّةٍ جبليّة وعرة ألتقي بعجوزٍ هازئ أضحكُ وتضحكُ في وجهي الريح!
لكن أن تكون آخر المتحررات من بانياس وموظّفة في الاتّحاد النسائي القريب جغرافياً من عيادتي، لأمرٌ يثلجُ الصدر حقّاً!!
إذاً ذهبتُ إلى الاتّحاد، واستقبلتني شجرة زيتونٍ باسمة... مديرة الاتحاد الآنسة الجميلة "ربى سليمان" وطلبتُ منها وقد غمرني الاستقبال الدافئ بالشجاعة مقابلةً مع مستخدمةِ الاتّحاد أم علي، آخر المتحررات من الأميّة في طرطوس.
سبقت كلماتي رائحة قهوةٍ أخذتني على مرجٍ جبلي، وبزغت "أم علي" بعينين حزينتي الألق تقدّم الفناجين وتدعو بالصحّة والهناء...
تمّ الاتفاق مع المديرة _التي زادني تواضعها إكباراً_ على تحديد موعد للقاء في عيادتي في العاشرة والنصف من صبيحة الثالث من تشرين الثاني.
خطوتُ وقتها نحو عيادتي مرتبكاً، لستُ صحافيّاً متمرّساً وأم علي _كما جمعتني بها اللحظات القليلة_ لها شفافيّة السنونو وخوفه... أخشى غلظةً معها فترتحل إلى منفىً بعيد! حتى قَدِمت بارتباكٍ أكبر فطيّبتُ خاطرها بدردشةٍ قصيرة طفتُ بها على حال الأولاد _مكمن فخر أم علي وتعلّق روحها_ قبل بدء التسجيل الصوتي لتلملمَ نفسها وبقايا عمرٍ سفحتْه مع الدموع والعرق!
كلّ الشكر لك "أم علي"، وأسمى آياته لمديرة الاتحاد الباذخة الودّ، وإليكم نصّ اللقاء كاملاً...
سؤال: ما اسمكِ كاملاً، ومتى وأين ولدتِ؟
جواب: نجيبة علي مجمود، من مواليد قرية "بعمرائيل" سنة 1968
سؤال: بداياتكِ في الحياة، والعمل الذي قمتِ به سواء في الأرض أو غيرها؟
جواب: تزوّجتُ وعمري \18\سنة، ولم يكن موظّفاً آنئذٍ، وبعد إنجاب ثلاثة أولادٍ توظّف في مؤسسة كهرباء بانياس، واستمرّ في وظيفته خمس سنواتٍ حتّى وافاه الأجل نتيجة حادثٍ أثناء العمل ومضى على وفاته عشرة أعوام، ولديَّ ابنتان وصبي...
سؤال: ماذا عملتِ قبل زواجك، ولمَ لم تتعلّمي؟
جواب: كما قلت لك سابقاً، لم يعتمد أهلي على التعليم كثيراً ،وكنا خمسَ فتيات وثلاثة شباب في المنزل تعلّم منهم اثنتان فقط، كان وقتنا ضيقاً وظروفنا صعبة ولم نمتلك المال الكافي للتعلّم كما الآن، والدي لم يكن موظّفاً أيضاً فعملنا في الأرض بزراعة البندورة والخيار وسواهما، هذا عدا عن صغر أعمار إخوتي ومرض أمّي اللاحق ودخولها المشفى، فاهتممتُ بتربيتهم.
سؤال: بعد زواجك ألم يتغيّر الوضع أم زادت الأعباء أكثر؟
جواب: تراكمت مزيداً، لو وُجد الأب فمن المؤكّد أن ذلك سيخفّف كثيراً، لكنّ وفاته وأولادي الصغار رتّب عليّ مسؤوليات كبيرة، والحمد لله فقد ربيتهم أفضل تربية وعلّمتهم، هم غايتي في الحياة ولاأسأل الله أكثر من أن يوفّقهم في مسعاهم.
سؤال: كيف ظهرت على السطح فكرة تخلّصكِ من الأميّة؟
جواب: عُرضت عليّ الفكرة في الاتّحاد، إذ قالت لي "ولاء":"أم علي... ألا تحبّين تعلّمَ القراءة؟" فقلت لها:"نعم وأيم الله" كنتُ أعرف قراءة بضع كلمات وتهجئتها، ثمّ ضمّنا فصلٌ واحدٌ أنا واثنتين من مدينة بانياس، وفي نهاية الدورة سلّمنا المحافظ شهادة محو الأمية في مدرسة الشيخ صالح العلي في بانياس، لكن رفيقتيّ لم أرهما بعد ذلك، الأولى سافرت إلى لبنان والثانية نحو ضيعتها البعيدة، وانقطعت كل سبل الاتصال بهما، فلم يبقَ سواي ممثّلةً عن مدينة بانياس في الحفل الذي أقيم في طرطوس وكرّمتنا خلاله السيدة الأولى.
سؤال: إذاً كنتِ أنت الوحيدة من مدينة بانياس التي قابلتِ السيّدة الأولى؟
جواب: كان معنا من قرى بانياس، على ما أذكر ثلاثة من "القلوع" ومن "راس الوطى" و"حريصون"، أمّا من مدينة بانياس فقد كنتُ الوحيدة.
سؤال: من شجّعك على محو أميّتكِ يا أم علي؟
جواب: السيّدة "أم فراس" "نوّار حرفوش"، رئيسة الاتحاد سابقاً، قالت لي:" أتمنّى يا أم علي أن تأخذي قرارك بهذا الخصوص، وهذه الآنسة "ولاء" ستقوم بتعليمك".
سؤال: حسناً... تمّ تشجيعك من الاتحاد النسائي، لكن هل تجاوبتِ مع الأمر ووجدتِ في داخلك صدىً لهذه الدعوة؟
جواب: نعم استحسنتُ الموضوع، الحمد لله لاينقصني شيء! لكن دورة محو الأميّة علّمتنا أموراً كثيرة وفتّحت أعيننا المغمضة.
سؤال: ألم تعاني من مشكلة أميّتك هذه؟
جواب: بالطبع، فلمّا تقدّمت للتوظيف طولبتُ بشهادةٍ دراسيّة لم أكن أملكها، ثم حاول ابن عمي السعي لتوظيفي رغم أميّتي ولم أوقنُ بقدرتي على نيل الوظيفة الضروريّة لأقيم بأود أولادي الأيتام، أنا أمّهم ومن أقدر مني على الحنوّ عليهم وتنشئتهم بشكل قويم!!
-إذاً كان دافعكِ الأساس لمحو أميتك هو الالتحاق بوظيفةٍ توفّرين من خلالها لأولادك عيشاً هانئاً، حسناً... ماهو مثلك الأعلى في الحياة والذي أحببتِ الاقتداء به لمحو أميتك؟
جواب: حركتي قليلة ولاأزور أحداً! فأنا ملتزمة ببيتي وأولادي...
سؤال: ألم تسمعي عن أناسٍ قبلك تخلّصوا من أميّتهم؟
جواب: لا...
سؤال: إذاً كان دافعكِ شخصيٌّ بحت؟
جواب: نعم...
سؤال: طيب... طالما حقّقتِ هدف حياتك بتعليم أولادك فوصلوا برّ الأمان، وأنتِ تخلّصتِ من أميّتك، هل ثمَّ رسالة أو كلمة ترغبين بتوجيهها لمحيطك، قريتك والمجتمع؟
جواب: أطالب من لديها ولدٌ لم يتعلّم أن تعلّمه، العلم كنزٌ، وهذه الأيام التعلّم فيها يسير بخلاف أيّامنا. يسائلني أولادي:"لمَ لم تتعلمي!؟" فأقول:"يا أمّاه لم يُقدّر لي من ينصحني ويحثّني كما أفعل معكم، وعليّ أن أقدّم لكم جهدي فتعلّموا" والحمد لله أولادي بخير ويتابعون تحصيلهم العلمي.
سؤال: لماذا تحبّين العلم والتعلّم وتطالبين به؟
جواب: أحبّه كي يبقى أولادي متفوقّين، أحبه لأنّي أحبّ النجاح الذي يعنيه أن تكون متعلّماً...
سؤال: ولكن قلتِ أنّه لم يكن في القرية كلها مثلٌ يحتذى في التعليم!!
جواب: صحيح... لكن لاحظت أن ولدي يبدي اهتماماً أكبر بدروسه، وكان والده المرحوم يقول:"لاأريد شيئاً من الدنيا إلا أن تتعلّم"، والحمد لله من الصفّ الأوّل الابتدائي وحتى البكالوريا اجتاز هذه المراحل وأخذ شهاداتها.
سؤال: نستطيع القول أنّها وصيّة زوجك المرحوم تصبّ في هذا المنحى وكان لديه الرغبة في أن يتعلّم الأولاد؟
جواب: نعم كان زوجي متعلّماً، ولما توفّي كانت صغرى بناتي في الصفّ الأول، والآن هي في الصف الحادي عشر، وصار أبنائي شباباً والحمد لله!
سؤال: قلتِ لديك ثلاثة أولاد، ما أسماؤهم وماهي مراحلهم الدراسيّة؟
جواب: علي تربية معلم صف سنة ثالثة في الجامعة، والبنت الأولى إيمان سجّلت هذه السنة في قسم الفلسفة في الجامعة، وهذه أول سنة بعد إعادتها البكالوريا حيث حصّلت في السنة الأولى من الشهادة الثانويّة مجموعاً وقدره \173\ ورسبت في اللغة العربيّة، وهذه السنة جمّعت \193\علامة. أمّا الصغرى فكما قلت في الصف الثاني الثانوي في ثانويّة الحرس القومي الخاصّة، حيث بلغ مجموعها في الشهادة الإعداديّة \175\لم يحقّ لها الالتحاق بالثانويّة العامّة بقسطٍ سنوي يبلغ ثلاثة عشر ألفاً... أحبّ أن يكونوا أفضل الناس هذا هو طموحي، ولو لم أكن متعلّمة، لكن أحبّ أن يكون أولادي من الأوائل!
سؤال: قلتِ أن ذويكِ لم يشجعوك على التعلّم، وبعد زواجك لم يكن لديك الوقت للتعلّم، عدا عن عدم وجود أحدٍ يُقتدى به، فما هو سبب إصرارك الكبير على تعليم أولادك أفضل تعليم؟
جواب: رأيت أولاد إخوتي وجيرتي والأقارب، المتعلّم يفرق عن غير المتعلّم! نحنُ جرّبنا تجربة عدم التعلّم فحريٌّ بنا ألا ندع أولادنا يخوضونها بدورهم.
سؤال: بماذا يختلف المتعلّم عن غير المتعلّم؟
جواب: يختلف كثيراً!! فالمتعلّم متنوّر...
سؤال: أفهم من كلامك أن ارتياحك يكون أكبر مع المتعلّم؟
جواب: نعم وهذا من خلال تجربتي في الاتحاد، وبين أولادي... إنه مختلف!
وكونني أم وأب لأولادي فأحبّ التضحية في طريقهم، أريدهم أن يتعلّموا ويكونوا من الأوائل دائماً... ولا أريد من هذه الدنيا أو منهم عرفاناً سوى أن يتعلّموا! وهذه أمنية والدهم المتوفّى أيضاً.
سؤال: هل كان ثمة دعم من الأقرباء لك؟
جواب: نعم والحمد لله، كل أقربائي كانوا أخياراً معي، وخاصّةً أعمام الأولاد.
سؤال: ومن الأباعد من أهل القرية؟
جواب: نعم جيرتي شجعتني كثيراً، لكن دعم الأقرباء كان أكبر.
سؤال: هل نظروا نحو سعيك هذا نظرة احترام؟
جواب: نعم... أنا إنسانة طيبة والحمد لله، في بيتي، مع جيراني والأقرباء، في مكان العمل طوال حياتي بينهم.
سؤال: هل وقعت أيّ مشاكل أو ظهرت عقبات أثناء تحرّرك من الأميّة؟
جواب: أبداً والحمدلله...
سؤال: حدثيني قليلاً عن دور الاتحاد النسائي؟
جواب: شجعتني السيدة نوار حرفوش، ثمّ جاءت الآنسة ربى التي تابعت مسيرة السيّدة نوار في تشجيعي، وكانت من رافقتنا إلى مدينة طرطوس للقاء السيّدة الأولى.
سؤال: هل توضّحين مسير الدورة داخل الاتحاد، الظروف وكيفيّة تعليمكنّ باختصار؟
جواب: كانت جيدة جدّاً، بمتابعة وإشراف من السيدة نوّار، إذ أصرّت على تعليمنا وأكّدت على رغبتها ألا نحتاج أحداً ونكون قادرين على حمل عبء أنفسنا بأنفسنا...
سؤال: حدثينا عن مقررات الدورة؟
جواب: ضمّ المنهاج كيفية التهجئة وعدد الحروف، لكنّه لم يقتصر على الهجاء فقط، لقد كان منهاجاً متكاملاً، زُوّدنا بالكتب وبقيت معي كالحساب وغيرها.
سؤال: كم استغرقت الدورة؟
جواب: ثلاثة أشهر، اخذتُ في نهايتها الشهادة التي سلّمها لنا المحافظ باليد، ثم قابلتُ السيّدة الأولى، وسُئلت:"هل ستطلبين منها أمراً خاصّاً؟" قلت: "جلّ ماأريده أن تُعنى بالوطن كما تفعل الآن، أن أجلس معها وأراها وجهاً لوجه، إنها سيدة رائعة بكل معنى الكلمة!!".
سؤال: هل تفكرين بمتابعة تحصيلك العلمي؟
جواب: لاأستطيع! وقتي ضيق واهتمامي منصب على أولادي في الجامعة والمدرسة.
سؤال: طيب عندما يُنهي أولادك تعليمهم، ألا تحاولين إتمام تعليمك بتقديم امتحان الشهادة الإعداديّة وحتى الثانويّة؟
جواب: إن شاء الله، لاأدري كيف تتغيّر الظروف، لكن لديّ الرغبة عندما تتسنّى لي الفرصة.
سؤال: تعملين أعمالاً أخرى غير الوظيفة الحكوميّة؟
جواب: كلا أبداً... من عملي إلى منزلي وأشرف على دراسة أولادي.
سؤال: زراعة الأرض مثلاً؟
جواب: ليس لديّ أرضٌ لأزرعها ولا أمتلك الوقت، فكلّ وقتي مكرّسٌ لأولادي.
أشكر لك يا أم علي شفافيتك وصراحتك في الإجابة، وأتمنّى لأولادك _قرة عينيك_ مزيداً من التقدّم والتفوّق شكراً لك...
تحقيق: د. شادي عمار