أفاقَ متورّم العينين، الوسادة تئنُّ تجعّداتَ عنيفة من قراعِ أرقٍ استمرّ طوال الليل...!
-لعنَ الله التخلّفَ... متى نسبقُ غيرنا من الأمم..؟
ندّت من فمه مقهورةً حزينة، لها نفَسُ الفقر الكالح الموشّي وجوه قريته_الزَّيْنَة_، الغازيةِ بوهنٍ صخورَ جبلٍ وعر. ولأوّلِ مرّة منذ ولدتهُ أمّه وحتى دخوله مجلس الشعبِ نائباً عن قريته ومجموعةِ قرى أخرى، لم يسبق أن باغته الهمّ بهذه الوحشية!.
فالوفدُ البرلماني الذي التقى به مؤخّراً مع نخبةٍ من زملائه، أثار فيه العجب: سربٌ أسودٌ كغربانِ فزّاعة حقله، رجاله ذوي لحى طويلةٍ مشعثة، ونساؤه لم يعرفْهنَّ من السواد الذي غطّاهن تماماً لولا تُرجِمَ له أنهنّ ... نساء.
جاء الوفدُ من بلدٍ وراءَ البحار، حيثُ تغيبُ الشّمس مراراً وتشرق نادراً، وعندما تشرق، يزدادُ تسربلهم بالسّواد! على حدّ زعمِ رئيسِ الوفد...
فاكهتُهم التّمرُ فقط _عاتبه على زراعة التّبغِ في (الزّيْنة) فالتّبغُ يورث السرطان!!_، وأنّ الخمرَ لا يعرفوه حتّى!!_غمزه مطمئِناً أنّه يعرفُ عاداتِ الريفِ هنا، وأنَّ لا بيتَ يخلو من عَرَقْ_، أمّا المساجدُ فهيَ تزيدُ وتعلو عن البيوتِ، وإذ صدَحَ أذانها... قضَّت مضاجعَ وحوش البرّ والبحر في نصف الأرضِ بأسره.
لاحظَ أنّ عينيّ رئيسِ الوفدِ لم تفارقْه، مرّةً تلهبانه عتباً فيخجل، ومرّةً تمخِّضانه اعتذاراً ومديحاً فينتشي. قال:
-أنا مختارُ قريةِ الزَّيْنة الجميلة يا سيّدي، كم أرجو أن تشرّفنا بزيارتها.
-أزاينا... أزاينا... _نطقها بعجمة_ ما سمعت بها قبلاً، لكن سأزورها حتماً. طيّب، قل لي... كم جامعاً في قريتكم!؟
جفلَ من صفعةٍ أبويّةِ الوقع، وشعرَ بالخزيِ كما كانت تُرفَع قدميه صغيراً في الهواء، لتهاجمَهما عصا غليظةٍ من أبٍ غليظِ القلب.
- هناك جامعٌ واحدٌ فقط، نحاو...
قاطعه بفظاظة...: عيب... حرام... أنتَ مسلم صديقي ولّا لأ!؟
-أنا مسلم...
قاطعه...: إذاً عمّروا بيوتَ الله...
ذهبَ موزّعَ الجنانِ إلى قريته بطريقها الإسفلتي المتشقّق، وطبيعتها الآسرة التي ما قاومت خزيه فبدت متعِبةً لعينيه. تمنّى لو بين ليلةٍ وضحاها تنقلب أشجارها إلى مآذن..!
أهل الضيعةِ الجذلون للقياه صدمهم مظهره العابس، حاولوا تبيّنَ الأمرِ باللين والممازحة حتّى انقضَّ غاضباً...
-كفى كلاماً فارغاً... تسألوني عن حِسانِ الشام، أو عن أسعارِ التّبغِ هناك، أو هل وافقوا على بناءِ المدرسة. وتنسونَ ما هو أهم..!!
-وما هوَ الأهمّ يا مختار..؟
صُدِمَ المجتمعون بما قاله مختارهم، فلا المستوصف أو المدرسة أهمّ من الجامع الحالي!! الأولادُ يتعلّمون في (حلقةِ كتّابْ) القرآنَ والسنّة فقط فلا حاجة لغيرها من العلوم، والمريض يطبّبه شيخُ المسجدِ نفسه بما أُثِرَ عن السّلفِ الصّالح فلا نلجأ للكفر المسمّى طبّاً!! أمّا حقول التبغِ وخوابي العرق فيجب أن تحرقَ وتهرق، فيا لذَّةَ الفقر المتفاقم مع التزام الدين، على رغدٍ تعيثُ فيه الأهواءُ والرذيلة.
ولدى دخول امرأته تريدُ إكرامَ الضيوفِ بكؤوسِ المتّة نهرها!! وتذكّرَ أن يقول:
- فرضُ الحجابِ على نسوتنا واجب، فالمرأةُ كلّها عورة، هذا ما أمرَ به القدير العزيز في التنزيل...
ثم جاء الوفدُ إيّاه إلى الزّينة محمّلاً بالرمل والحصى والإسمنت، ليعلو مسجدانِ ولا أبهى، ولتبورَ حقول التبغ، أمّا جرارُ العرق فقد أصرّ رئيسُ الوفد أن تُكسرَ كلّها إلا جرّتان أرادَ أن يفحصهما بنفسه في بلده القصي لدى مختبرٍ فيه، ثم يوافي أهل الضيعة بتحاليل هذه السموم التي يتناولونها..!! وتلمّظَ شفتيه. امتدّ سواد الوفد ليغطي نساءَ الزّينة، وأديرَ اتّفاقٌ على تقاسم الأموال كي لا يفتقر أهل الضيعة بعد التجديدات الطارئة، فيرهن كلّ واحدٍ جزءاً من أرضه لدى جمعيّةٍ محدثة، لها الحق بمصادرتها إن تخلّى عن عضويّتها.
أما المختار اللاهث وراء التغيير فقد سأل رئيس الوفد ملتاعاً عن دليلٍ يُظهر اعتماقَ الإيمان في نفوس أهل الزينة!؟ فقال الأخير:"يجب أن تقول امرأتك أن الشّمس سوداء!"
طار إلى امرأته على جناحي اللهفة، فوجدها نائمة، ليوقظها بسؤاله.
-أنتِ يا امرأة، ما لون الشمس الآن!؟
وبعد تفكيرٍ طويل، هزّت كتفيها دون أن تدري.
-لعنَ الله التخلّفَ... متى نسبقُ غيرنا من الأمم..؟
ندّت من فمه مقهورةً حزينة، لها نفَسُ الفقر الكالح الموشّي وجوه قريته_الزَّيْنَة_، الغازيةِ بوهنٍ صخورَ جبلٍ وعر. ولأوّلِ مرّة منذ ولدتهُ أمّه وحتى دخوله مجلس الشعبِ نائباً عن قريته ومجموعةِ قرى أخرى، لم يسبق أن باغته الهمّ بهذه الوحشية!.
فالوفدُ البرلماني الذي التقى به مؤخّراً مع نخبةٍ من زملائه، أثار فيه العجب: سربٌ أسودٌ كغربانِ فزّاعة حقله، رجاله ذوي لحى طويلةٍ مشعثة، ونساؤه لم يعرفْهنَّ من السواد الذي غطّاهن تماماً لولا تُرجِمَ له أنهنّ ... نساء.
جاء الوفدُ من بلدٍ وراءَ البحار، حيثُ تغيبُ الشّمس مراراً وتشرق نادراً، وعندما تشرق، يزدادُ تسربلهم بالسّواد! على حدّ زعمِ رئيسِ الوفد...
فاكهتُهم التّمرُ فقط _عاتبه على زراعة التّبغِ في (الزّيْنة) فالتّبغُ يورث السرطان!!_، وأنّ الخمرَ لا يعرفوه حتّى!!_غمزه مطمئِناً أنّه يعرفُ عاداتِ الريفِ هنا، وأنَّ لا بيتَ يخلو من عَرَقْ_، أمّا المساجدُ فهيَ تزيدُ وتعلو عن البيوتِ، وإذ صدَحَ أذانها... قضَّت مضاجعَ وحوش البرّ والبحر في نصف الأرضِ بأسره.
لاحظَ أنّ عينيّ رئيسِ الوفدِ لم تفارقْه، مرّةً تلهبانه عتباً فيخجل، ومرّةً تمخِّضانه اعتذاراً ومديحاً فينتشي. قال:
-أنا مختارُ قريةِ الزَّيْنة الجميلة يا سيّدي، كم أرجو أن تشرّفنا بزيارتها.
-أزاينا... أزاينا... _نطقها بعجمة_ ما سمعت بها قبلاً، لكن سأزورها حتماً. طيّب، قل لي... كم جامعاً في قريتكم!؟
جفلَ من صفعةٍ أبويّةِ الوقع، وشعرَ بالخزيِ كما كانت تُرفَع قدميه صغيراً في الهواء، لتهاجمَهما عصا غليظةٍ من أبٍ غليظِ القلب.
- هناك جامعٌ واحدٌ فقط، نحاو...
قاطعه بفظاظة...: عيب... حرام... أنتَ مسلم صديقي ولّا لأ!؟
-أنا مسلم...
قاطعه...: إذاً عمّروا بيوتَ الله...
ذهبَ موزّعَ الجنانِ إلى قريته بطريقها الإسفلتي المتشقّق، وطبيعتها الآسرة التي ما قاومت خزيه فبدت متعِبةً لعينيه. تمنّى لو بين ليلةٍ وضحاها تنقلب أشجارها إلى مآذن..!
أهل الضيعةِ الجذلون للقياه صدمهم مظهره العابس، حاولوا تبيّنَ الأمرِ باللين والممازحة حتّى انقضَّ غاضباً...
-كفى كلاماً فارغاً... تسألوني عن حِسانِ الشام، أو عن أسعارِ التّبغِ هناك، أو هل وافقوا على بناءِ المدرسة. وتنسونَ ما هو أهم..!!
-وما هوَ الأهمّ يا مختار..؟
صُدِمَ المجتمعون بما قاله مختارهم، فلا المستوصف أو المدرسة أهمّ من الجامع الحالي!! الأولادُ يتعلّمون في (حلقةِ كتّابْ) القرآنَ والسنّة فقط فلا حاجة لغيرها من العلوم، والمريض يطبّبه شيخُ المسجدِ نفسه بما أُثِرَ عن السّلفِ الصّالح فلا نلجأ للكفر المسمّى طبّاً!! أمّا حقول التبغِ وخوابي العرق فيجب أن تحرقَ وتهرق، فيا لذَّةَ الفقر المتفاقم مع التزام الدين، على رغدٍ تعيثُ فيه الأهواءُ والرذيلة.
ولدى دخول امرأته تريدُ إكرامَ الضيوفِ بكؤوسِ المتّة نهرها!! وتذكّرَ أن يقول:
- فرضُ الحجابِ على نسوتنا واجب، فالمرأةُ كلّها عورة، هذا ما أمرَ به القدير العزيز في التنزيل...
ثم جاء الوفدُ إيّاه إلى الزّينة محمّلاً بالرمل والحصى والإسمنت، ليعلو مسجدانِ ولا أبهى، ولتبورَ حقول التبغ، أمّا جرارُ العرق فقد أصرّ رئيسُ الوفد أن تُكسرَ كلّها إلا جرّتان أرادَ أن يفحصهما بنفسه في بلده القصي لدى مختبرٍ فيه، ثم يوافي أهل الضيعة بتحاليل هذه السموم التي يتناولونها..!! وتلمّظَ شفتيه. امتدّ سواد الوفد ليغطي نساءَ الزّينة، وأديرَ اتّفاقٌ على تقاسم الأموال كي لا يفتقر أهل الضيعة بعد التجديدات الطارئة، فيرهن كلّ واحدٍ جزءاً من أرضه لدى جمعيّةٍ محدثة، لها الحق بمصادرتها إن تخلّى عن عضويّتها.
أما المختار اللاهث وراء التغيير فقد سأل رئيس الوفد ملتاعاً عن دليلٍ يُظهر اعتماقَ الإيمان في نفوس أهل الزينة!؟ فقال الأخير:"يجب أن تقول امرأتك أن الشّمس سوداء!"
طار إلى امرأته على جناحي اللهفة، فوجدها نائمة، ليوقظها بسؤاله.
-أنتِ يا امرأة، ما لون الشمس الآن!؟
وبعد تفكيرٍ طويل، هزّت كتفيها دون أن تدري.