مشكلة الحرية عميقة الجذور في تواريخ ألأمم . تناولها الفكر الإنساني في جميع عصوره ومراحله،وفي جميع ميادين ونواحي نشاطاته من فلسفية وأدبية وعلمية واقتصادية وسياسية...الخ
فتعددت بذلك مفاهيم الحرية بتعدد الدارسين والباحثين ، وتمايزت وتـنوعت بـتمايـز وتـنوع الجـماعـات ، والبـيـئات ، والأزمـنة ، ومستويات حضارات الشعوب .
إلا َّ أن الجديد هـو الرؤية الجديدة للإنسان والحرية . فأنا لا أقول بوجود حرية مستـقـلة بذاتها . لأن الحرية الحقيقية كما نفهمها ليست حرية العدم ، بل حرية الوجود . الوجود الإنساني الكامل . الإنسان الذي هو مقياس كل الأشياء ، ومتجه كل القيم .
قبل أن أوضح مفهومنا للحرية ، علينا أن نوضح مفهومنا للإنسان الذي هو سبب وجودها وغايتها .
وتوضيح مفهومنا للإنسان يتطلب ، بالضرورة ، إيضاح نظرتنا الى الحياة الإنسانية في نشوئها ونموّها وتطورها وارتقائها .
ولما كانت هذه العجالة لاتـتسع لبحث اجتماعي وفلسفي يفي الموضوع حقه من جميع جوانبه ، فإننا نـكـتـفي بالإشارة والتنويه بأهم النظـرات والنـظـريات التي استـنـد اليها أو التـزم بها النـوع الإنســاني في خـطـوط وخِـطـط تـفـكيره التاريخية التطورية ، لـنـشـيـر بـعــدها الى نـظـرتـنا الجـديـدة الى الانسان التي يمكن تـسـمـيـتـهـا بالنظرة المجتمعية العقلية .
1 ـ النظرة الـروحية الغيـبـيـة
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هي نظرة تقرر انبثاق " الوجود من العدم " ويرى اصحابها ودعاتها الإنسان في كمال وجوده فـردا ً ، ويرون ايضا ً البـشـــر في كل بيئاتهم ومجتمعاتهم عائلة واحدة ، ويتركز بنظرهم أساس المثال الأعلى للقـيـَم الانسانية في الأساس الغـيـبي الذي جاءت القـيـَم الإنسانية تعـكس بعـضا ً من ارادته ، وتـتحـرك بأوامره
تبعا ً لنواميسه وقـوانينه التي يخرقها بمعجزاته ويعطل سيرها حـيـن ومتى يشاء . وهـذه النـظـرة هي أرقى ما توصل اليه الإنســان قـديـما ً في ثـورته على بدائـيته ووحشيته على الرغم من كـونها نظـرة ماورائـية افتراضية تكهنية جزئـية أدت الى
مفهـوم فردية القـيـَم وماورائـيتها ، بحيث رأت الحـرية مـثـلا ً حـرية فــردية . ورتـّـبت على الفـرد الانساني مســؤلية تـجـاه قـيـَـم ماورائـية مـجـردة تـهـيـمـن على كل تـفـكيـره ، وتسيطـر عـليه سيـطـرة تامة . وهذه النظـرة ما تـزال تتحكم بالمجموع الأعظم من البشر في كل مجتمعاتهم .
2 ـ النظرة المادية التكـهـنـية
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هي النظرة التي تقرر انبثاق الوجود من " تـطـور مادي تلقائي " وقـد رأى أصحابها ودعاتها وفلاسفتها الماديون الإنسان في تمام وجوده ايضا ً وجودا ً فـردا ، ورأوا البشــر رغم تمايـز وتـمـيـّز بيئاتهم ومجتمعاتهم مجتمعا ً واحـدا ً ، واعتـقـدوا أن المثال الأعلى للقـيـَم الإنسانية ، في مفهـومهم ، يـتـركـّز في الأسـاس المـادي الـديالكتيكي الذي جاءت القـيـَم الإنسانية تـعكس بعضا ً من جـدليته وتـتـحـرك تـبـعا ً لنامـوس حـتـمـيـته الذي لا يخضع لتـغـيـيـر الا تـغـيـيـر القانون الجدلي . وهذه النظرة كانت رد فعل على النظرة الـروحية الغـيـبـية الإفـتـراضية .
فـتـناقـضت معها من حيث النتائـج الأخيـرة، وانسجـمت النظرتان الروحية والمادية من حيث أسلوب المواجهة ، وموقفهما من علة الكون . فـحـل إفتراض " التطـور التلقائي "عـنـد الفلاسفة الماديين مـحـل افتراض " واجب الوجود" عـنـد الفلاسـفـة الروحـيـيـن . مما أدى الى مادية القـيـَـم بـدل ماورائـيـتـهـا ، وثنائـية التناقـض في المثال الأعلى المادي بـدل الوحدانية الغيبية في المثال الأعلى الروحي .
3 ـ النـظـرة المـجـتمعية العـقـلية
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وهذه النظـرة هي عنوان نظرتنا المجتمعية الإنسانية الواقعية التي هي ليست رد فـعـل على النظرة الروحية ، وليست رد فـعـل على النظرة المادية . وانما هي نظرة عملية واقعية علمية شاملة الى الـواقـع الإنساني في نشـوئـه ونـمـوّه ، ونشوء المجتمعات وتطورها، ونشوء الأمم وتمدنها وارتقائـها ، ومـعـنى القومية ووعيّ مضامينها وفهم واستيعاب القـيـَم الإنسانية العليا وممارسة الصراع لتـحـقـيقها .
هذه النظرة لا تبـدأ مما قـبـل الإنسان . ولا تـهتم بما هو خارجه او بعده بل تهتم بكل ما له علاقة به . ان هذه النظرة تـبـدأ من وبالإنسان . وتهتم به ، وبكل ما من شأنه تـحسين حياة الإنسان وتـجـويـدها وتـشــريفها وتـوسيـع آفاق تـقـدمها وتـرقـيـتها، وهي تـنـتـهي فيه . وهي ترى أن الإجتماع كما ذكر المعلم أنطون سعاده في مـؤلفه العلمي " نشوء الأمم" " حـتـمي لـوجـود الإنسان ، ضـروري لبقائـه " وعلى هذا فـقـد قـررت هذه النظرة أن الإنسان في كمال وجـوده هوانسان ـ مجتمع وليس انسان ـ فـرد ، وأدركت من البدية أن أساس الإرتقاء الإنساني ليس أساس روحي وحسب ، ولا هو أساس مادي خالص بـل هـو أساس مادي ـ روحي . أي مـدرحي دون ثنائـية .
وهذه النظرة تنطلق من نظرة أحد المفكرين والمبدعين وتـعـمل بقوله الشهير " ليس المكابـرون بالروح بمستـغــنيـن عن المادة وفلســفتها ، وليس المكابرون بالمادة بمستغـنيـن عن الروح وفلسفته . إن أساس الإرتـقاء الإنساني هـو أساس مادي ـ روحي ، وإن الإنسانية المتـفـوقة هي التي تـدرك هذا الأساس وتـشيـد صـرح مستـقـبلها عليه "
وكما تـرى بعين الـوضـوح واليقين والعلم مـجتمعية الإنسان ومـدرحيته، لا فـرديته المادية ولا فـرديته الـروحية ، فإنها ترى أيضا ً بعين الـواقـع والعلم أن الكرة الأرضية الكروية هي واقـع بيئـات جـغـرافية مـتـعـددة
ومـتـنـوعة ، وان العالم الإنساني هـو واقـع مـجـتمعات قـومية متمايزة.
انه واقـع أمـم . واقـع انسانيات ثقافية حضارية متعايشة متعاونة ولا يمكنها ان تعيش وتـتـطور وهي المعتزلة الواحدة منها عن الأخرى ، بل عليها ان تكون على اتصال بعضها بـبعض . وهذه النظرة ترى أيضا ً أن مطلقـية القـيـَم الإنسانية هي في كـونها قـيـَم مـجـتمعية قـومية مـدرحـية انسانـية مـتــنوعة في انسجام ، ومـتـعــددة في تناغـم ، ومـتـمايزة في تفاهم .
وبناء على ما تـقـدم فإن مسؤلية الفـرد الإنساني النهائـية ليست ولا يمكن ان تـكون تجاه القـيـَم الماورائـية المجـردة ، ولا تجاه المثال المادي في الحياة ، وإنما هي مسؤلية تجاه المجتمع الذي ينتمي اليه الفـرد ولا
يستـطـيع اختياره إلا بـقـدر ما يختار والديه . فالمجتمع هـو مـصـدر الأفراد وهـو بالتالي مـصـدر القـيـَم وغايتها ، وهـو أيضا ً المدى الصالح والحيوي الذي يـفـسح المجال لبروز الشخصية الـفردية ونـمـوّها ورقيّها واطلاقها الى أبـعـد مـدى .
وعلى هذا الأساس فإنـنا نـجـد أن القيـَم الفـردية أو الفـئـوية أو المـذهبية أو الطبقية لا تستـطـيع مهما ارتقت أن تـصل الى مستوى القـيـَم الحقيقية الإنسانية ، لأنها لا تـقـدر أن تـتـعـدى في اهتماماتها نطاق الفرد أو الفئـة أو المذهب أو الطبقة أو الأقلية أو الأكـثـرية .
وبما أن المجتمع يحضن الفرد والفئة والمذهب والطبقة والأقلية والأكثـرية وكل الشرائـح ، فإن القـيـَم القومية الإجتماعية الإنسانية هي قـيـَم جميع الأفراد والفئات والمذاهب والطبقات والأقليات والأكثريات وكل الشرائح الإجتماعية .
وحيث ان المجتمع القومي هـو عنصر أساسي في مـُرَكـّـب العالم الذي نسميه الانسانية المترابطة فيما بين أمـمه بواسطة ثقافاتها وعلاقاتها وآدابها وابداعاتها ، فإن القـيـَـم الإجتماعية القومية هي قـيـَم انسانية
عامة لجميع بني البشر . وكلما ارتقى الفكرفي أمة ، وارتـقت مفاهيمها ، وتـوسعت آفاق نظـرها ، وابعاد مـُثـُـلها العليا ، فإن وسائـل تفاهمها مع غيرها من الأمـم تـصـبح أرقى ، وقـيـَمها تـصـبـح أكثـر انسانية وأكـثـر قـبـولا ً وتـبـنـيا ً.
وبناء على كل ما ورد ذكره ، فإن مسؤلية كل فـرد إنساني هي أن يكون مواطنا ً صالحا ً منتجا ً في المجتمع وليس في الفئة ، ولا في المذهب ولا في الطبقة ولا في الطائفة ولا في أي شكل آخـر من أشكال التجمعات البشرية المنغلقة أو المنفلشة . وحين يتحول أبناء المجتمع الى مواطنين صالحين منتجين ، فإن مجتمعهم يـُصـبح ، بلا شك ، عـضـوا ً سليما ً فاعـلا ً في حـركة إغناء التـجـدد والإرتقاء الإنسانيـين ، وتـكوين عالم انساني جـديد بـقـيـَم انسانية أرقى وأسمى .
على ضـوء هذا المفهـوم الجـديد للـوجـود الإنساني يتـضح أن الوجود الكامل السليم الصحيح ليس وجودا ً فرديا بل إجتماعيا ً ، وليس وجودا ماديا ً منفصلا ً عن الروح ، ولا وجودا روحيا ً مـجـردا من المادة ، بل هـو وجود مادي ـ روحي واحـد دون ثنائية . وجود مـدرحي انساني إذا تـجزأ فـقـد انسانيته وتلاشى .
ولأن واقـع الكوكب الذي نعيش عليه ليس بيئة واحـدة ، بل واقـع بيئات متنوعة ، مما يجعل العالم الإنساني واقـع مجتمعات متمايزة . واقع أمـم .
فإن الوجود المجتمعي الأتم الكامل هـو وجـود الأمة التي لا تعني جيلا ً واحـدا ً في حقبة من الزمن ولا تعني عـدة أجيال في عـدة حـقـب زمنية بل تعني وحـدة حياة الجماعة الانسانية وحـركتها المستمرة على بقعة أو بيئة معينة من الأرض تفاعلت معها وتتفاعل وسوف يستمر هذا التفاعـل منذ كانت الحياة الانسانية الى ما سوف تكون .
يتبع
فتعددت بذلك مفاهيم الحرية بتعدد الدارسين والباحثين ، وتمايزت وتـنوعت بـتمايـز وتـنوع الجـماعـات ، والبـيـئات ، والأزمـنة ، ومستويات حضارات الشعوب .
إلا َّ أن الجديد هـو الرؤية الجديدة للإنسان والحرية . فأنا لا أقول بوجود حرية مستـقـلة بذاتها . لأن الحرية الحقيقية كما نفهمها ليست حرية العدم ، بل حرية الوجود . الوجود الإنساني الكامل . الإنسان الذي هو مقياس كل الأشياء ، ومتجه كل القيم .
قبل أن أوضح مفهومنا للحرية ، علينا أن نوضح مفهومنا للإنسان الذي هو سبب وجودها وغايتها .
وتوضيح مفهومنا للإنسان يتطلب ، بالضرورة ، إيضاح نظرتنا الى الحياة الإنسانية في نشوئها ونموّها وتطورها وارتقائها .
ولما كانت هذه العجالة لاتـتسع لبحث اجتماعي وفلسفي يفي الموضوع حقه من جميع جوانبه ، فإننا نـكـتـفي بالإشارة والتنويه بأهم النظـرات والنـظـريات التي استـنـد اليها أو التـزم بها النـوع الإنســاني في خـطـوط وخِـطـط تـفـكيره التاريخية التطورية ، لـنـشـيـر بـعــدها الى نـظـرتـنا الجـديـدة الى الانسان التي يمكن تـسـمـيـتـهـا بالنظرة المجتمعية العقلية .
1 ـ النظرة الـروحية الغيـبـيـة
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هي نظرة تقرر انبثاق " الوجود من العدم " ويرى اصحابها ودعاتها الإنسان في كمال وجوده فـردا ً ، ويرون ايضا ً البـشـــر في كل بيئاتهم ومجتمعاتهم عائلة واحدة ، ويتركز بنظرهم أساس المثال الأعلى للقـيـَم الانسانية في الأساس الغـيـبي الذي جاءت القـيـَم الإنسانية تعـكس بعـضا ً من ارادته ، وتـتحـرك بأوامره
تبعا ً لنواميسه وقـوانينه التي يخرقها بمعجزاته ويعطل سيرها حـيـن ومتى يشاء . وهـذه النـظـرة هي أرقى ما توصل اليه الإنســان قـديـما ً في ثـورته على بدائـيته ووحشيته على الرغم من كـونها نظـرة ماورائـية افتراضية تكهنية جزئـية أدت الى
مفهـوم فردية القـيـَم وماورائـيتها ، بحيث رأت الحـرية مـثـلا ً حـرية فــردية . ورتـّـبت على الفـرد الانساني مســؤلية تـجـاه قـيـَـم ماورائـية مـجـردة تـهـيـمـن على كل تـفـكيـره ، وتسيطـر عـليه سيـطـرة تامة . وهذه النظـرة ما تـزال تتحكم بالمجموع الأعظم من البشر في كل مجتمعاتهم .
2 ـ النظرة المادية التكـهـنـية
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هي النظرة التي تقرر انبثاق الوجود من " تـطـور مادي تلقائي " وقـد رأى أصحابها ودعاتها وفلاسفتها الماديون الإنسان في تمام وجوده ايضا ً وجودا ً فـردا ، ورأوا البشــر رغم تمايـز وتـمـيـّز بيئاتهم ومجتمعاتهم مجتمعا ً واحـدا ً ، واعتـقـدوا أن المثال الأعلى للقـيـَم الإنسانية ، في مفهـومهم ، يـتـركـّز في الأسـاس المـادي الـديالكتيكي الذي جاءت القـيـَم الإنسانية تـعكس بعضا ً من جـدليته وتـتـحـرك تـبـعا ً لنامـوس حـتـمـيـته الذي لا يخضع لتـغـيـيـر الا تـغـيـيـر القانون الجدلي . وهذه النظرة كانت رد فعل على النظرة الـروحية الغـيـبـية الإفـتـراضية .
فـتـناقـضت معها من حيث النتائـج الأخيـرة، وانسجـمت النظرتان الروحية والمادية من حيث أسلوب المواجهة ، وموقفهما من علة الكون . فـحـل إفتراض " التطـور التلقائي "عـنـد الفلاسفة الماديين مـحـل افتراض " واجب الوجود" عـنـد الفلاسـفـة الروحـيـيـن . مما أدى الى مادية القـيـَـم بـدل ماورائـيـتـهـا ، وثنائـية التناقـض في المثال الأعلى المادي بـدل الوحدانية الغيبية في المثال الأعلى الروحي .
3 ـ النـظـرة المـجـتمعية العـقـلية
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وهذه النظـرة هي عنوان نظرتنا المجتمعية الإنسانية الواقعية التي هي ليست رد فـعـل على النظرة الروحية ، وليست رد فـعـل على النظرة المادية . وانما هي نظرة عملية واقعية علمية شاملة الى الـواقـع الإنساني في نشـوئـه ونـمـوّه ، ونشوء المجتمعات وتطورها، ونشوء الأمم وتمدنها وارتقائـها ، ومـعـنى القومية ووعيّ مضامينها وفهم واستيعاب القـيـَم الإنسانية العليا وممارسة الصراع لتـحـقـيقها .
هذه النظرة لا تبـدأ مما قـبـل الإنسان . ولا تـهتم بما هو خارجه او بعده بل تهتم بكل ما له علاقة به . ان هذه النظرة تـبـدأ من وبالإنسان . وتهتم به ، وبكل ما من شأنه تـحسين حياة الإنسان وتـجـويـدها وتـشــريفها وتـوسيـع آفاق تـقـدمها وتـرقـيـتها، وهي تـنـتـهي فيه . وهي ترى أن الإجتماع كما ذكر المعلم أنطون سعاده في مـؤلفه العلمي " نشوء الأمم" " حـتـمي لـوجـود الإنسان ، ضـروري لبقائـه " وعلى هذا فـقـد قـررت هذه النظرة أن الإنسان في كمال وجـوده هوانسان ـ مجتمع وليس انسان ـ فـرد ، وأدركت من البدية أن أساس الإرتقاء الإنساني ليس أساس روحي وحسب ، ولا هو أساس مادي خالص بـل هـو أساس مادي ـ روحي . أي مـدرحي دون ثنائـية .
وهذه النظرة تنطلق من نظرة أحد المفكرين والمبدعين وتـعـمل بقوله الشهير " ليس المكابـرون بالروح بمستـغــنيـن عن المادة وفلســفتها ، وليس المكابرون بالمادة بمستغـنيـن عن الروح وفلسفته . إن أساس الإرتـقاء الإنساني هـو أساس مادي ـ روحي ، وإن الإنسانية المتـفـوقة هي التي تـدرك هذا الأساس وتـشيـد صـرح مستـقـبلها عليه "
وكما تـرى بعين الـوضـوح واليقين والعلم مـجتمعية الإنسان ومـدرحيته، لا فـرديته المادية ولا فـرديته الـروحية ، فإنها ترى أيضا ً بعين الـواقـع والعلم أن الكرة الأرضية الكروية هي واقـع بيئـات جـغـرافية مـتـعـددة
ومـتـنـوعة ، وان العالم الإنساني هـو واقـع مـجـتمعات قـومية متمايزة.
انه واقـع أمـم . واقـع انسانيات ثقافية حضارية متعايشة متعاونة ولا يمكنها ان تعيش وتـتـطور وهي المعتزلة الواحدة منها عن الأخرى ، بل عليها ان تكون على اتصال بعضها بـبعض . وهذه النظرة ترى أيضا ً أن مطلقـية القـيـَم الإنسانية هي في كـونها قـيـَم مـجـتمعية قـومية مـدرحـية انسانـية مـتــنوعة في انسجام ، ومـتـعــددة في تناغـم ، ومـتـمايزة في تفاهم .
وبناء على ما تـقـدم فإن مسؤلية الفـرد الإنساني النهائـية ليست ولا يمكن ان تـكون تجاه القـيـَم الماورائـية المجـردة ، ولا تجاه المثال المادي في الحياة ، وإنما هي مسؤلية تجاه المجتمع الذي ينتمي اليه الفـرد ولا
يستـطـيع اختياره إلا بـقـدر ما يختار والديه . فالمجتمع هـو مـصـدر الأفراد وهـو بالتالي مـصـدر القـيـَم وغايتها ، وهـو أيضا ً المدى الصالح والحيوي الذي يـفـسح المجال لبروز الشخصية الـفردية ونـمـوّها ورقيّها واطلاقها الى أبـعـد مـدى .
وعلى هذا الأساس فإنـنا نـجـد أن القيـَم الفـردية أو الفـئـوية أو المـذهبية أو الطبقية لا تستـطـيع مهما ارتقت أن تـصل الى مستوى القـيـَم الحقيقية الإنسانية ، لأنها لا تـقـدر أن تـتـعـدى في اهتماماتها نطاق الفرد أو الفئـة أو المذهب أو الطبقة أو الأقلية أو الأكـثـرية .
وبما أن المجتمع يحضن الفرد والفئة والمذهب والطبقة والأقلية والأكثـرية وكل الشرائـح ، فإن القـيـَم القومية الإجتماعية الإنسانية هي قـيـَم جميع الأفراد والفئات والمذاهب والطبقات والأقليات والأكثريات وكل الشرائح الإجتماعية .
وحيث ان المجتمع القومي هـو عنصر أساسي في مـُرَكـّـب العالم الذي نسميه الانسانية المترابطة فيما بين أمـمه بواسطة ثقافاتها وعلاقاتها وآدابها وابداعاتها ، فإن القـيـَـم الإجتماعية القومية هي قـيـَم انسانية
عامة لجميع بني البشر . وكلما ارتقى الفكرفي أمة ، وارتـقت مفاهيمها ، وتـوسعت آفاق نظـرها ، وابعاد مـُثـُـلها العليا ، فإن وسائـل تفاهمها مع غيرها من الأمـم تـصـبح أرقى ، وقـيـَمها تـصـبـح أكثـر انسانية وأكـثـر قـبـولا ً وتـبـنـيا ً.
وبناء على كل ما ورد ذكره ، فإن مسؤلية كل فـرد إنساني هي أن يكون مواطنا ً صالحا ً منتجا ً في المجتمع وليس في الفئة ، ولا في المذهب ولا في الطبقة ولا في الطائفة ولا في أي شكل آخـر من أشكال التجمعات البشرية المنغلقة أو المنفلشة . وحين يتحول أبناء المجتمع الى مواطنين صالحين منتجين ، فإن مجتمعهم يـُصـبح ، بلا شك ، عـضـوا ً سليما ً فاعـلا ً في حـركة إغناء التـجـدد والإرتقاء الإنسانيـين ، وتـكوين عالم انساني جـديد بـقـيـَم انسانية أرقى وأسمى .
على ضـوء هذا المفهـوم الجـديد للـوجـود الإنساني يتـضح أن الوجود الكامل السليم الصحيح ليس وجودا ً فرديا بل إجتماعيا ً ، وليس وجودا ماديا ً منفصلا ً عن الروح ، ولا وجودا روحيا ً مـجـردا من المادة ، بل هـو وجود مادي ـ روحي واحـد دون ثنائية . وجود مـدرحي انساني إذا تـجزأ فـقـد انسانيته وتلاشى .
ولأن واقـع الكوكب الذي نعيش عليه ليس بيئة واحـدة ، بل واقـع بيئات متنوعة ، مما يجعل العالم الإنساني واقـع مجتمعات متمايزة . واقع أمـم .
فإن الوجود المجتمعي الأتم الكامل هـو وجـود الأمة التي لا تعني جيلا ً واحـدا ً في حقبة من الزمن ولا تعني عـدة أجيال في عـدة حـقـب زمنية بل تعني وحـدة حياة الجماعة الانسانية وحـركتها المستمرة على بقعة أو بيئة معينة من الأرض تفاعلت معها وتتفاعل وسوف يستمر هذا التفاعـل منذ كانت الحياة الانسانية الى ما سوف تكون .
يتبع