9/12/2008
(1)
كاذب، كيف ستكتبُ عن قصة حبّ هائلة بحجم التاريخ, وأنت لم تعشها بعد؟
أو لربما قد عشتَها, لكنها لم تكن بحجم خيالكَ, أو تصوراتِكَ, أو عالمكَ الخرافيّ..
مُذ كنتَ صغيراً, كنتَ تبحثُ عن حبيبةٍ تعلّق عليها عجزكَ المبكّر, كنتَ تصرف سنيّ عمركَ كما السّراب, أحمقٌ بهيئة دابّة على قائمتين..
كانت أمكَ تسترُ كلّ عوراتِكَ, غزالاً كنتَ بعينيها أيها القرد, رأت فيكَ ما لن تراه طوال عمركَ, كبرتَ كنعامة رأسُها ينمو في التراب, ها قد اشتعل رأسكَ بالشيب, وأنت بعد لمّا تبلغ سنّ الإفراج عن أسنانِكَ اللّبنية.
حسنٌ, أهذا كلّ ما في جعبتكَ للمستقبل؟
هاتِ حدّثني, هبْ أني لن أطلقَ لساني السليطِ في وجهكَ الآن, أطلقِ العنانَ لحبالِ الكلام, خذْ بيد حنجرتكَ إلى نبع الإفضاء, علّها عطشى من هول صمتكَ الطويل..
كلّ ما أعرفه عنكَ الآن, لم يكن وليدَ صُدفة, وجثّتي القائمة أمامَكَ, لم تأتِ بها شخوص القدر والحظ إليك, إنما عامداً متعمّداً أتيتْ, وإني لأعلم أنكَ ستظل أبكماً, أفيعجبكَ أن أتكلم للناس بلسانِكَ, فأفضحُكَ وأفصحُ عنكْ؟
اسمع, حين كنتَ في العاشرة, أحببتَ عبد الحليم حافظ, وحين بلغتَ الثامنة عشر, أطربتكَ أم كلثوم, الآن أنتَ تحلفُ برأس بيتهوفن, وتلعن السّاعة التي سمعتَ فيها أولئكَ الذين تأخذكَ أغانيهم وموسيقاهم إلى أقرب خمّارة, حتى تبدو كمن فُجع بعزيز له, أليس كذلك؟ ثم تتناول ورقة الحساب بعد مطارحة "البطحة" لتكتب على ظهرها الأبيض البريء ما تسمّيه شعراً, أنتَ وحدكَ من تطلق عليه شعراً, كلّ سِكّيري القرن الواحد والعشرين, يسمونه "صوتاً ورائحة", ثم تستيقظ في الصباح "العاجل" لتهمّ إلى صديقكَ المفدى, وتتلو عليه ماتيسّر من عقد النّكاح العائد إليك.
أعرفُ أنكَ تكاد تنفجرُ من تكرار تاريخكَ المملّ على أسماعِكَ, وأنا أيضاً, تعبتُ من توبيخي الرّوتيني لكَ يا هذا, وفقدَتْ أصابعي بسببكَ؛ حلاوة امتشاق السيجارة التي كنتُ أستمتع بإشهارها يوماً ما, وصارت أسناني مهاجع للقطران المظلم, وبات حلقي مأوىً للأوبئة..
كان عليكَ أن تنسحبَ منذ البداية, وتصارحها, بأنها فتاة عادية جداً, وبأنّ مولّد الخرافة والخيال لديك, الذي يعمل على طاقة الافتراض, بات قاب قوسين أو أدنى من أن يجعلها الحبيبة التي لاشريك لها في سماءاتِك, لكنكَ تماديت إلى أبعد من ذلك, تجاهلتَ كلّ مؤشرات البورصة الميتافيزيقية, وضربتَ حول عينيكَ حاجزاً, كحصان بائع المازوت في بلدتنا, ورفعتَ رايات الجهاد, ثم ماذا؟
ثم سمعتَ بيان خيبتكَ على الموجة القصيرة, وبلاغاتِ إذعانكَ, ثمّ, ها أنتَ, تكاد تَعدّ ماتبقى لكَ من أسنان في هذا السجن الانفرادي.
ثمّة من كانت تعرف حجمَها الحقيقي في نفسِك, كانت تنتظر حتى تفرغَ من لهوِكَ, وتلحظُكَ من بعيد وأنتَ تدنو صوبَها, تؤمن بكَ, كما آمنَتْ بأنوثتِها, هي نفسها من أبدت لكَ في يوم من الأيام ملاحظة بسيطة حول "جيش الإنقاذ" في عام 1948, عندما تكلمتما عن معاني النكبة, وكيف تفرّقت قطعان الفوضى فشلاً, أمام الذئب "المنظم", أظنّ أنكَ بتّ تذكرُ جيداً الآن ما كانت تتكلم عنه.
أنتَ تركتها وحيدةً, وفرضت عليها أتاوة غبائِكَ, وعندما انتشلتَ رأسكَ من عقبِ المقصلة, جئتَها به, تلفّه بزينة الطاعة, تقدّمه هدية بين يديها..
أتعلم لمَ قبِلَتْ هديتكَ؟
لأنها تعرفُ تماماً أنك ستحبّها, لكنها آثرَتْ أن تصمتَ حيناً, ريثما تزول آثارُ الشِّعرِ لديك.
فلتبقَ صامتاً ياصاحِ, أعترف أني إلى الآن لم أعرف لمَ فعلتَ كلّ هذا؟ لكني أعرفُ مافعَلتْ.
يتبع .................................
عدل سابقا من قبل إياس بياسي في 31/12/2008, 12:25 عدل 1 مرات