" الإعجاز في نغم القرآن "
إنّ هذا القرآن في كلّ مقطع منه وقصّة , وفي كلّ مشهدٍ منه وفقرة , يمتاز بأسلوب إيقاعي غني بالموسيقى مملوء بالنغم .
ويردّ " سيد قطب "سحر القرآن إلى نسقه الّذي يجمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً حيث يقول:
( فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة , والتفعيلات العامّة وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الدّاخليّة والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل , والتقفية التي تغني عن القوافي وضمّ ذلك إلى الخصائص التي ذكرناها ) " 1 "
( وإنّ هذه الموسيقى الداخليّة لتنبعث في القرآن حتى من اللفظة المفردة في كلّ آية من آياته فتكاد تستقل بتصوير لوحةٍ كاملة فيها اللون زاهياً أو شاحباً ) " 2 "
أرأيت لوناً أزهى من نضرة الوجوه السعيدة النّاظرة إلى ربها , ولوناً أشدّ شحوباً من سواد الوجوه الشقيّة الكالحة الباسرة في قوله تعالى :
( وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذٍ باسرة تظنّ أن يفعل بها فاقرة )
لقد استقلّت في لوحة السعداء لفظة ناضرة بتصوير أزهى لونٍ وأبهاه , كما استقلّت في لوحة الأشقياء لفظة باسرة برسم أمقت لونٍ وأنكاه .
وتقرأ في قوله تعالى ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز )
فلا ترى في المعجم غير كلمة " زحزح " تصوّر مشهد الإبعاد والتنحية بكلّ ما يقع في هذا المشهد من أصوات وما يصاحبه من الذعر .
من ذا الّذي يقرأ قوله تعالى : ( يرسل عليكما شواظٌ من نارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران )
ثمّ لا يتخيّل في جوّ هذه الآية وحدها الشواظ الناري يتطاير , والنحاس الملتهب يذوب فوق رؤوس العباد المجرمين وهم يحاولون من أقطار السماوات والأرض .
ومن ذا الّذي يقرأ سورة كاملة من سور القرآن _ طويلة أو قصيرة , مكيّة أو مدنيّة _ ثمّ لا يوقظ نسقها الرائع قلبه , ويهزّ إيقاعها العجيب مشاعره ؟؟
إنّ المرء ليحتار إذا قرأ مثلاً سورة الرحمن " فيتساءل : ها انبعث إيقاعها المنساب من مطلعها أو ختامها أو من خلال آياتها , وإذا هو يقطع بأنّ النغم يسري فيها كلّها في فواصلها ومقاطعها وفي ألفاظها وحروفها .
.
.
.
1 _ التصوير الفنّي في القرآن , سيّد قطب , القاهرة , 1949 م
2- مباحث في علوم القرآن , د. صبحي الصالح , دار العلم , القاهرة , 1990 م