من طرف هل أحرق نيرون روما حقاً؟؟؟
(لو كان الموتى ينطقون لما امتلأت كتب التاريخ بالأكاذيب السخيفة) "مارك توين"
(لو كان الموتى ينطقون لما امتلأت كتب التاريخ بالأكاذيب السخيفة) "مارك توين"
" نيرون "امبراطور حكم روما في القرن الأوّل للميلاد ارتبط اسمه في ذاكرة النّاس بما لايسرّ فاسمه لا يرد إلا عند الحديث عن الظلم والطغيان والفساد والانحطاط الخُلقي وربما كانت رواية إحراقه روما حاضرة الدنيا في حينها وعاصمة أكبر امبراطورية عرفها التاريخ هي أشهر مانسب له من جرائم ولهولها وبشاعتها اقترن ذكره بها أكثر من غيرها من الجرائم التي وصم بها كاضطهاده المسيحيين وقتله أمّه واتخاذه أخته خليلةً وسوى ذلك مما هو شنيع وقبيح ومذموم كالعهر والتهتك والشذوذ حتى ليظن من يقرأ ما كتب عنه أنّه أقرب للشيطان منه إلى البشر ولأجل هذاأصبح اسمه مضرب المثل في الظلم والبطش والطغيان
لكنّا لو قرأنا سيرة هذا الرجل منذ اعتلائه عرش روما في العام 54.م وحتى مقتله منتحراً بالسّم عام 69. م بروية وتأنٍّ ولونظرنا إلى أحوال الامبراطورية الرومانية العظمى في عهده لوجدنا بعض التناقض بين ما نسب إليه وبين حال الامبراطورية على الصّعيدين الإداري و الاجتماعي ، ولو ألقينا نظرة عريضة على ما دارعلى امتداد العالم القديم الذي كان تحت راية روما من أحداث في تلك المرحلة ثمّ ربطنا بينها وبين ما طرأ على البلاط الروماني من تغيرات خطيرةلأمكننا أن نزعم أن مجرماً آخركان يحيك بإتقان خيوط مؤامرة آلت بالأمور إلى ماآلت إليه في عصر نيرون ..هذا المجرم هو اليهود في ولاية "يواديا" بفلسطين تؤازرهم وتدعمهم الجالية اليهوديّة في روما ولا يسعنا القول أن ملاحظاتنا أدلّة دامغة كالتي يحتاجها القضاة ، لكن ما حفزنا إلى اعتناق تلك الفرضية فرضيّةِ المؤامرة اليهوديّة ليس بأضعف من الأدلّة التي استخدمت ضد هذا الامبراطور والتي لم تتعد الإشاعاتِ إضافةً إلى أقوالِ منتقديه وأعدائه وليس فيها ما يدينه سوى أنّها تستند إلى أحداث وقعت في بلاطه ..وذلكم سرد موجز لسيرة هذا الامبراطوروبقعةُ ضوءٍ نسلّطهاعلى أهم ما وقع في عصره من أحداث
نيرون... ربما ظلمه التاريخ
ولد" نيرو كلاوديوس قيصر" في الخامس عشر من شهر كانون الأوّل ديسمبر عام 37 .م في مدينة "بيزو" لإحدى أكثر العائلات الرومانية نبلاً إذ تعودُ أصول عائلته إلى قيصر العظيم
أمّه أغربينا الصغرى شقيقة الامبراطور الرهيب "كاليغولا" وأبوه أحد القادة الذين شاركوا في الحرب التي انتصرت فيها روما على قرطاج ، مات أبوه قيل أن يراه وحرصت أمّه على أن ينال وليدها أفضلَ تعليمٍ على يد الفيلسوف الرواقي الشهير" سينكا " ،عادت أغربينا إلى روما في عام 49 .م لتتزوّج من الامبراطور "كلاوديوس" فتصبح خلفاً للامبراطورة "مسلينا" التي اتهمت بتدبير مؤامرة لقتل زوجها الامبراطور وأعدمت مع عشيقها لذاك السبب .وممّا لا شكّ فيه أنّ مسيلينا كانت مسرفة وطموحة غير أن الشعراء الرومان قد أسرفوا هم أيضاً في حديثهم عن فسادها وقصص عشقها ويعطينا إسرافهم وتهويلهم فكرةً عن الطريقة التي كانت متبعة في تناول تاريخ أهل البلاط .
مسيلينا .. ظلمها الشعراء و .. الإشاعات
أما على صعيد الامبراطورية كانت أمور الولايات تسير بسلاسة ويسر إذ كانت الانتفاضات والثورات تقمع دونَ هوادة ثم يتمّ النظر في أسبابها واتخاذ ما يحول دون تكرارها ثانية وإن تطلب الأمر تنازلاتٍ من الامبراطورية لرعاياها كما حدث في ثورة البريطانيين عندما تمردوا بقيادة " بوديكا"واستولوا على لندن وكولشيستر فبدا الأمر كما لو أن الامبراطورية قد فقدت السيطرة على الوضع لكن سرعان ما قمعت الثورة وفتح تحقيق في الأمر استدعي فيه الوالي الروماني واتبعت روما بعدها سياسةً أكثر اعتدالا تضمن استتباب الأمن في تلك البقعة المحتقنة
وفي الشرق كانت رحى الحربُ دائرةً بين الفرثيين والرومان من قبل أن يستلم نيرون مقاليد الأمور و انجلى الصراع بينهما إثر تنصيب ملك بارثي على عرش أرمينيا ،استدعي إلى روما ليتوج هناك وأسفر ذلك عن سلام دام ما يزيد عن نصف قرن
من خلال ما تقدم يبدو واضحاً أن الأحوال الأمنية والسياسية والاقتصادية كانت زمن حكم نيرون جيدة رغم بعض حالات الفساد التي اقتصرت على البلاط منها بعض التصرفات غير المألوفة من الامبراطور الشّاب كميلهِ للملذات وظهوره بمظاهر لا تناسب كونه امبراطوراً لروما وما ذلك بمستغرب من فتىً في ميعة الشباب وجد نفسه فجأة سيّد العالم لكن وجود "سينكا" و"أغربينا" وقائد الحرس البريتوري المخلص "بوريوس" إلى جواره جعل أمور الحكم مستقرة ، وقد تمكنوا ثلاثتهم من إقناع نيرون بالزواج من "أوكتافيا" ونال ذلك رضا الشعب الروماني واستحسانه ، وما لبث أن وقع حادث مؤسف تمثّل بمقتل "بريتانيكوس" ابن كلاوديوس وكانت أصابع الاتهام تشير إلى أغربينا حيث حسب متهموها أنها دبرت لقتله لتضمن عدم منازعته ابنها في الحكم
أغربينا ... أم رهيبة لولدٍ رهيب
ظهرت فجأةً في حياة نيرون امرأة فاتنةٌ قلبت حياته وغيّرت وضع البلاط ..إنّها: "بوبيا سابينا" زوجةُ أحد أصدقائه وهنا لا بدّ لنا من التّوقّف لطرح علامات استفهام كبرى حول تلك المرأة التي فرضت وصايتها على الجالية اليهودية الموجودة في روما ومنحتها امتيازات لم تكن تمنح لغير الرومان من رعايا الامبراطورية
لقد كان من الطبيعي أن يعارض كلٌّ من "سينكا" و"أغربينا" و"بوريوس" علاقة الامبراطور الشاب ب " بوبيا سابينا" و كان إصرار نيرون على بقائها إلى جانبه إزاء معارضتهم قوياً وأخذت الأمور في ظلّ هذا الوضع تأخذُ منحىً خطيراً إذ غدا البلاط مسرحاً للدسائس والمؤامرات وانزاحت الستارة عن جوّ من الرعب الحقيقي : ماتت أغربينا مسمومة في إحدى الحفلات ثم مات "بوريوس" قائد الحرس البريتوري نتيجة مرض مفاجئ وسرت شائعات تقولُ بأنه قضى مسموماً ولم يبق سوى المعلم سينكا الذي لم تعد طباع نيرون تتماشى مع تعاليمه فقتله مع مجموعة من المثقفين الذين يتبعون المذهب الرواقي بعدما لفقت له التهمة بالتآمر على الامبراطورية ووجد نيرون انسجاماً مع حاشيته الجديدة المتمثّلة ببوبيا سابينا وقائد الحرس الامبراطوري الجديد "تيجيللينوس" ومجموعة من العابثين الذين أحالوا البلاط إلى مرتع للهو والمجون والدعارة
فيما كان همّ نيرون إبراز مواهبه في السباقات الرياضية والتمثيل وكتابة الشعر والعزف على القيثارة والتّطوح بين جرار النبيذ والنساء
ووقعت الجريمة التي أوقدت مشاعر السخط على نيرون في نفوس رعيته : قتلت أوكتافيا زوجة الامبراطور ومحبوبة الشعب بتحريض من غريمتها "بوبيا سابينا"
بوبيا سابينا ... هل كانت يهوديّة ؟
تزامنت هذه الأحداث جميعُها مع إعلان اليهود تمردهم في فلسطين التمرّدَ الذي كان يعتبر ضرباً من الانتحار حالَ كان على رأس الامبراطورية إدارةٌ مسؤولة و نزعم أنّ اليهود كانوا يراهنون على ما هو أبعد من ذلك بفراغ عرش روما وهو النتيجة المؤكدة لما كانت الأمور تسير باتجاهه في أوج هذه الأحداث حلّت بروما أبشع كارثة يمكن حصولها لتكون ثالثة الأثافي وهي الحريق الكبيرففي الثامن عشر من تموز سنة68م.اندلع حريق هائلٌ أتى على أكثر من ثلثي أحياء المدينة وألحق دماراً هائلاً بالثلث الباقي منها واتهم نيرون على الفور بأنه كان وراء الحريق وكان الرأي العام في روما على أتمّ الاستعداد لتصديق تلك الشائعات وكانت حجة المنتقدين لنيرون أنه عرض مخططاته لبناء المدينة وفق تصوره وهنا لا بد لنا أن نتساءل هل يكفي عرض نيرون مخططاً لبناء المدينة دليلاً على اتهامه بالتسبب في الحريق ؟أم أنّ وراء الأكمة ما وراءَها
كل ذلك والتمرد اليهودي مستمرٌ في فلسطين ومن المثير للدهشة عجز الجيش الروماني عن قمع هذا التمرد ولم يكن لهذا الحدث الخطير أن يمر دون كبش فداء وكان اليهود هم الأولى بتحمّل التبعات لولا بوبيا سابينا التي أولتهم حمايتها ومنعت التّعرض لهم رغم الاحتقان الشّعبى والحقد المضطرم في نفوس الجماهير الرومانية تجاههم
استاء الشعب الروماني من الفساد المستشري في البلاط واشتعلت نفوس أبنائه غضباً على الامبراطور فاجتمع مجلس الشّيوخ ليعلن نيرون عدواً للشعب وحكم عليه بالموت فوضع نيرون حدّاً لحياته بتناوله السم سنةَ 69م.ووهو في الحادية والثلاثين من عمره غرقت الامبراطورية الرومانية إثر رحيله دون وريث في حال من الفوضى وظهرت بوادر الانقسام في والحرب الأهلية في الأفق وانقسمت الجيوش الرومانية فأعلن " جالبا" نفسه من اسبانيا امبراطوراً مدعوماً من الجيش الإسباني واتخذ لنفسه لقب قيصر، وأعلن " فيتللوس" نفسه امبراطوراً يعاضده جيش الراين أما في روما فكان "أوتو " القائد الجديد للحرس يمني نفسه بالحكم معتبراً نفسه وريثاً شرعياً ولكنّ الكلمة الفصل جاءت من الشرق حيث أعلن القائد فاسبسيان الذي كان يتولّى قتال اليهود نفسه امبراطوراً من الإسكندرية وسرعان ما انضمت إليه ولاية سوريا وجيش الدانوب ليزحف على روما ويحسم الصراع لصالحه بعد معارك ضاريةٍ شهدتها روما للاستيلاء على الكابيتول وقد سميّ ذلك العام بعام الأباطرة الأربعة وبذلك مرّ عامٌ آخر على التمرد اليهودي بانشغال الجيش الروماني بالحروب الأهلية وأرى أنّ اليهود حينها كانوا قد راهنوا على وصول الامبراطورية إلى تلك الحال ولم يكن أكثر المتفائلين ليتوقع أن تعود الامبراطورية الرومانية إلى وحدتها خلال عام واحدة وأن فسباسيان سيصبح امبراطوراً على روما وأوّل عملٍ قام به الامبراطور الجديد هو توجيه ابنه "تيتوس" على رأس جيش لقمع تمرّد اليهود ورغم توحّد الامبراطورية فقد أبدى اليهود مقاومة كبيرة دليل على أنّ تمرّدهم كان محسوباً وكان رهانهم على تفكك الامبراطورية ليتمكنوا من اعلان دولتهم في وسط ولايات متناحرة كما كانت الحال عليه زمنَ الإغريق وليتمكنوا بذلك من وضع حدّ لانتشار المسيحيّة بين الشعوب الرومانية باعتباراليهودية البديل كدين سماوي وهذا ما لن يستطيعوا تحقيقه بوجود دولةٍ قويّة تفرض قوانينها عليهم وعلى غيرهم من رعاياها من خلال ما ورد من سيرة نيرون وحالة الامبراطورية في عهده لا نعتقد بأنّه كان مضطراً لحرق روما من أجل إعادة بنائها إذ إنه لو فعل لكان كمن يحرق فراشه لأنّ برغوثاً تغلغل فيه علاوةً على أن السلاح اليهودي المتمثّل في المرأة المتسللة إلى مخدع الحاكم (بوبيا سابينا) يجعلنا نعتقد بأّن نيرون لم يحرق روما وأنّ من أحرقها هم اليهود.
مراجع البحث :
دراسات في تاريخ الرّومان محمّد محفل
حضارة الرّومان محمود ابراهيم السّعدني
