أفاق مترنحاً من جرعة فجرٍ رائق، وهدر البحرُ إثرَ صفعةِ ريحٍ مباغتة. طالعته الحيطان القديمة وأقواسها بأبهاء خففّت قليلاً من وحشته، وذكرته برائحة منزل الأهل العامر، رغم الضيق، بالسعادة.
في مدرسة المعلم يوسف التقى وفتيانٌ في مثل عمره، أكبر، وأصغر. لكنّ العصا ساوت بينهم، ونظّارةَ المعلم يوسف حداةٌ تخطف الأفراخَ المشاكسة إلى عشٍّ من اللطمات.
كان يتسلّم النقودَ من أخيه الأكبرَ ملفوفةً بمنديلٍ أمومي العبق، لتختلج العبرات، فيواريها الأخُ الأكبر بسرعة رحيل، ويواريها بدوره في غياهب نفسه داخل الخان الذي يتوضّأ في البحر.
ولمّا أعطاه المعلم يوسف قطعةً مستطيلة من ورقٍ مقوّى موشّاة بزخارف بسيطة قائلاً:"هذه شهادتك الثانوية"، أدرك جذلاً أن جناحيه باتا أكبر من أن يسعهما خان هذه المدينة البحرية،بانياس، فطار متعثّراً إلى العاصمة.
لم تكن المدن في تلك الفترة من الستينيات سوى ضواحٍ نائية لدمشق، حتى دمشق، كانت قريةً حطّت أبنيتُها الشاهقة فجأةً من الفضاء!!
قاسى صراعاً مريراً مع الحياة المتسعة باضطّراد، فاللفّة الأمومية العبق ضاعت على الطريق الطويل إلى منآه، والفجر البحري المسكِر حلّ محلّه ضجيجُ مخاضِ العاصمةِ من الرحم العتيق إلى العصريّة. عدا عن ضجيجٍ آخر لصراعاتٍ تمور بداخله، أشجار سنديان ونخيلٍ بحري تتساقط، ليعرّش محلّها عليقٌ واخز الأشواك.
تعلّم أن يدوس قلبه بقدميه، وأفتى لنفسه أنَّ صديقاً ميتاً خيرٌ منه حيّاً ويقف في وجه أحلامه التي اتخذت فجأة شكل المال.
طال الأمر أكثر من اللازم بقليل كي يدفن قريتَه ومعها لفّةَ أمِّه. أثناء تدرّجه في المناصب، وليتّسع كفّه _الذي زالت منه أخاديد الأرض المحروثة_ لمزيدٍ من الهبات. وكقائدٍ فاتحٍ تهوي دونه القلاع، هوت لمرآه الجديد الأفئدة خاشعة وقد استطالت لحيته إثر هدْيٍ إيماني. وطال الأمر أكثر من اللازم بقليل ليدفن كتيّبَ الشّيخ الذي علّمه بعض الأدعية البسيطة تحت تينة قريته المعمرة، ويلتقي مع المفتي وأكابر الفقهاء. مبدعاً مأثرته في تمجيد أحد الفاتحين الدمويين الذين يغصّ منهم التاريخ!!
صوّر عمله الأدبي في مسلسلٍ حصد جوائز نفطيّة، وذاع صيته في كل البلدان، الناطق منها وغير الناطق بالشهادتين والضاد.
حتى حطّ متعباً، بعد طول ترحال، وقد شارف الثمانين في مدينته الأولى، التي توضّأ خانها في البحر.
"عدنا إلى بانياس، وأهلِها" ممنّاً على الحضور الذين اتسعت عليهم صالة المركز الثقافي بوجوده بينهم. نبش الذكريات البعيدة والقريبة أثناء فتوحاته الأسطوريّة لمروراتٍ في مدنٍ صغيرةٍ أخرى، جعلها مسرحاً لكبريائه حتى هوت منهكة من فرط الرقص على شرف إسعاده!!
ولم يختلف الوضع كثيراً في بانياس، سوى أنها شهدتْه بجناحين عاريين مضحكين، يقفز صغيراً على رمالها الناعمة. ويذكرهما هو نفسه بسخرية!
عُرض في صالة مركزها الثقافي تبجيله للفاتح العنيف، ثم انتظر غير منتظرٍ أسئلةً يعرفها أبواق مديحٍ لا غير.
علا صوتُ أوّلِ بوق، فاخترق التاريخَ من منتصفه ورأسه وذنبه، ووصل به الأمر إلى حدّ نَسبَةِ الأديب الأريب للفاتح المُحظى نفسه.
ضحك خلف قناع من سخف الإطراء! وشكر للصبيّة اندفاعَها العاشق. ثم قامت أخرى فابتسم لانجذاب الجنس اللطيف إلى فوديه الشائبين. لكن الصبية هذه أشهرت سيفاً مرتجفاً لم يحل ارتعاشه دون نفاذه حتى شغاف قلبه، ولوهلة، خامره شكٌّ أن تكون الفتاة اليافعة قد شاهدت جناحيه العاريين حين قطن في بانياس قبل ولادتها بعشرين سنة!؟
ذكّرته متردّدة بدمويّة فاتحه وفحشه، فطار صوابه لطفلةٍ ناولت رأسه الذي انحنت دونه الرؤوس، ببيضةٍ فاسدة. ولم تنفع محاولات مدير المركز وأعوانه في الترويح عنه عبر تقريعها مزيداً! بل أذاقهم مرار ما ألمَّ به تأنيباً ووعيداً بأن لا يطأ هذه الأرض مجدّداً.
ولدى عودته إلى العاصمة مهزوماً، دوّن في الجريدة اليومية اهتراء اسمه! في مواجهة مدينةٍ صغيرة، وعلى غير عادة المدن الصغيرة الأخرى، أفلحت هي في قتله.
في مدرسة المعلم يوسف التقى وفتيانٌ في مثل عمره، أكبر، وأصغر. لكنّ العصا ساوت بينهم، ونظّارةَ المعلم يوسف حداةٌ تخطف الأفراخَ المشاكسة إلى عشٍّ من اللطمات.
كان يتسلّم النقودَ من أخيه الأكبرَ ملفوفةً بمنديلٍ أمومي العبق، لتختلج العبرات، فيواريها الأخُ الأكبر بسرعة رحيل، ويواريها بدوره في غياهب نفسه داخل الخان الذي يتوضّأ في البحر.
ولمّا أعطاه المعلم يوسف قطعةً مستطيلة من ورقٍ مقوّى موشّاة بزخارف بسيطة قائلاً:"هذه شهادتك الثانوية"، أدرك جذلاً أن جناحيه باتا أكبر من أن يسعهما خان هذه المدينة البحرية،بانياس، فطار متعثّراً إلى العاصمة.
لم تكن المدن في تلك الفترة من الستينيات سوى ضواحٍ نائية لدمشق، حتى دمشق، كانت قريةً حطّت أبنيتُها الشاهقة فجأةً من الفضاء!!
قاسى صراعاً مريراً مع الحياة المتسعة باضطّراد، فاللفّة الأمومية العبق ضاعت على الطريق الطويل إلى منآه، والفجر البحري المسكِر حلّ محلّه ضجيجُ مخاضِ العاصمةِ من الرحم العتيق إلى العصريّة. عدا عن ضجيجٍ آخر لصراعاتٍ تمور بداخله، أشجار سنديان ونخيلٍ بحري تتساقط، ليعرّش محلّها عليقٌ واخز الأشواك.
تعلّم أن يدوس قلبه بقدميه، وأفتى لنفسه أنَّ صديقاً ميتاً خيرٌ منه حيّاً ويقف في وجه أحلامه التي اتخذت فجأة شكل المال.
طال الأمر أكثر من اللازم بقليل كي يدفن قريتَه ومعها لفّةَ أمِّه. أثناء تدرّجه في المناصب، وليتّسع كفّه _الذي زالت منه أخاديد الأرض المحروثة_ لمزيدٍ من الهبات. وكقائدٍ فاتحٍ تهوي دونه القلاع، هوت لمرآه الجديد الأفئدة خاشعة وقد استطالت لحيته إثر هدْيٍ إيماني. وطال الأمر أكثر من اللازم بقليل ليدفن كتيّبَ الشّيخ الذي علّمه بعض الأدعية البسيطة تحت تينة قريته المعمرة، ويلتقي مع المفتي وأكابر الفقهاء. مبدعاً مأثرته في تمجيد أحد الفاتحين الدمويين الذين يغصّ منهم التاريخ!!
صوّر عمله الأدبي في مسلسلٍ حصد جوائز نفطيّة، وذاع صيته في كل البلدان، الناطق منها وغير الناطق بالشهادتين والضاد.
حتى حطّ متعباً، بعد طول ترحال، وقد شارف الثمانين في مدينته الأولى، التي توضّأ خانها في البحر.
"عدنا إلى بانياس، وأهلِها" ممنّاً على الحضور الذين اتسعت عليهم صالة المركز الثقافي بوجوده بينهم. نبش الذكريات البعيدة والقريبة أثناء فتوحاته الأسطوريّة لمروراتٍ في مدنٍ صغيرةٍ أخرى، جعلها مسرحاً لكبريائه حتى هوت منهكة من فرط الرقص على شرف إسعاده!!
ولم يختلف الوضع كثيراً في بانياس، سوى أنها شهدتْه بجناحين عاريين مضحكين، يقفز صغيراً على رمالها الناعمة. ويذكرهما هو نفسه بسخرية!
عُرض في صالة مركزها الثقافي تبجيله للفاتح العنيف، ثم انتظر غير منتظرٍ أسئلةً يعرفها أبواق مديحٍ لا غير.
علا صوتُ أوّلِ بوق، فاخترق التاريخَ من منتصفه ورأسه وذنبه، ووصل به الأمر إلى حدّ نَسبَةِ الأديب الأريب للفاتح المُحظى نفسه.
ضحك خلف قناع من سخف الإطراء! وشكر للصبيّة اندفاعَها العاشق. ثم قامت أخرى فابتسم لانجذاب الجنس اللطيف إلى فوديه الشائبين. لكن الصبية هذه أشهرت سيفاً مرتجفاً لم يحل ارتعاشه دون نفاذه حتى شغاف قلبه، ولوهلة، خامره شكٌّ أن تكون الفتاة اليافعة قد شاهدت جناحيه العاريين حين قطن في بانياس قبل ولادتها بعشرين سنة!؟
ذكّرته متردّدة بدمويّة فاتحه وفحشه، فطار صوابه لطفلةٍ ناولت رأسه الذي انحنت دونه الرؤوس، ببيضةٍ فاسدة. ولم تنفع محاولات مدير المركز وأعوانه في الترويح عنه عبر تقريعها مزيداً! بل أذاقهم مرار ما ألمَّ به تأنيباً ووعيداً بأن لا يطأ هذه الأرض مجدّداً.
ولدى عودته إلى العاصمة مهزوماً، دوّن في الجريدة اليومية اهتراء اسمه! في مواجهة مدينةٍ صغيرة، وعلى غير عادة المدن الصغيرة الأخرى، أفلحت هي في قتله.
عدل سابقا من قبل إدارة في 19/8/2008, 17:48 عدل 1 مرات (السبب : تصحيح فني)