صناعة !التخلف
بقلم الدكتور تركي بني خالد
التخلف صناعة، وربما أحد علوم العصر الذي تميزنا به بحق؛ فنحن أمة تفوقنا في كل علم وفن، ومن أبرز هذه الفنون: فن التخلف. نحن أميون، وربما نفاخر العالم بذلك. إننا نصنع الأمية وننتجها، ولربما نصدرها إلى أطراف العالم من حولنا.
التخلف عملة وطنية نحن من صنعها من أجل أن يتعامل بها الجميع، وهي العملة الوحيدة في العالم التي لها وجه واحد فقط، مرسوم عليه الجهل. نحن الوحيدون بين الأمم الذين نحارب الجهل بمزيد من الجهل.
ونحن من دون العالم نفاخر بأننا أمة "اقرأ" في حين ناصبنا القراءة كل العداء، وجعلنا من القراءة والكتب أعداء لنا منذ زمن بعيد. ونحن من بين كل الخلق الذين جعلنا شعار المرحلة- مع الاعتذار للشاعر عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فنحن إذن من خلد الجاهلية مهما كان قصد الشاعر من كلمة جهل بريئاً وإيجابياً. لدينا جاهلية قديمة وجاهلية معاصرة ذات أصول ويتم تدريسها في مدارسنا وجامعاتنا، ونتداولها في تعاملنا اليوم.
نحن نجهل ونتجاهل في كل شيء. لدينا مئات الفضائيات التي لا حصر لها تبث في ثنايانا مختلف صنوف الجهل والتخلف، وتسلب أوقاتنا وربما عقولنا- إن بقي لدينا شيء منها.
نتكلم كثيراً وجعلنا من القول فنوناً، ومن البلاغة صناعة، ومن السجع طريقة، ونمارس الكسل بكافة أنواعه التي من أهمها الكسل الفكري، فالدماغ في إجازة منذ قرون خلت، بانتظار صدمه كهربائية علها تبعثه من سباته العميق.
نمارس الكره.. وأحيانا الحقد ونرغب في الحرب, ونتبارى في الجهل والأمية. نمضي الساعات نبحلق في الشاشة الصغيرة وربما الكبيرة بحثاً عن شيء، ولا نجده. نضع الأطباق فوق سطوح بيوتنا، ونقلب المحطات وننام، ثم نصحو من أجل أن ننام من جديد.
نلقي مسؤولية كل مشاكلنا على الآخرين، على الاستعمار، وعلى القضاء والقدر، ونغمس رؤوسنا في الرمال. نشتم الآخرين وندعو عليهم بكل أصناف الدعاء، ونقنع أنفسنا أننا ما زلنا في مقدمة الأمم.
لا علاقة لنا بالإنتاج، ولا رغبة لنا في التطور، بل إننا قد نحارب من يقدم لنا فكرة قد تقود إلى تطورنا. نصدق كل شيء، ونؤمن بالخرافة، ونقدس الأسطورة، ونفرح بنشر الإشاعة.
عاطلون عن العمل، وصنعنا من البطالة مهنة. بل إننا نعيب على غيرنا حين يعمل.
لا نقرأ التاريخ، ونكره درس التاريخ في المدرسة، ونتثاءب كثيراً، ولا ندري ماذا نصنع بالمعلومات التي يضخونها في رؤوسنا وعلى مسامعنا ليل نهار.
نفاخر بأمجاد الماضي، ونزعم أن الأندلس كانت لنا، ولا نملك حاضراً مشرفاً نتحدث عنه. كل الأمم لها حاضر، ونحن ليس لنا إلا الماضي نتغنى به.
نفاخر بخرافات الزير سالم ونباهي برجولة عنترة العبسي، ونذكر في مجالسنا كرم حاتم الطائي الأسطوري، ونسمي أولادنا وبناتنا أسماء ونخلد أولئك الذين أورثونا الجهل والتهور وربما الغباء.
نسخر من الآخرين، ولا يعجبنا العجب، ونظن أننا لا غالب لنا. ونمجد مفهوم الذات لدينا، ونعطي أنفسنا كل الحق أن نصنف العالم وكل من حولنا ونلصق بهم نعوتاً وألوناً بعدد ألوان قوس قزح.
نحن جاهلون رغم كثرة مدارسنا، وجاهلون رغم انتشار جامعاتنا، فليس من بينها جامعة واحدة استحقت أن تكون من بين أفضل خمسمائة جامعة في العالم الحديث، وجاهلون رغم أن كثيراً منا يحمل درجة الدكتوراه أو في طريقه إليها.
نمارس الشعوذة، ويذهب حتى المتعلمون إلى مشعوذي الطب. يضربون المرضى بحجة إخراج الجن من أجسادهم، ولا نؤمن بالطب النفسي ولا بقدرات العيادات النفسية، أليس هذا هو الجهل بعينه؟
وفي زمن الانفجار المعرفي الهائل، تتفجر لدينا مواهب تفسير الأحلام، والمعالجة من خلال الشعوذة، وكل ما هو بعيد عن العقل.
نجهل بتفوق، ونتخلف بجدارة، نصدق كل شيء، ولا ندقق في شيء، ننعم بالجهل ونتلذذ بحلاوته، ويقتلنا الكبرياء.. لا نقبل الاختلاف في الرأي، ونعلن الحرب ببساطة، فهذه الواحة لنا دوماً وأبداً، وخلال لحظات، ودون نقاش تمتد أيدينا إلى سيوفنا، ونعتلي ظهور خيولنا، فلا مجال لتفاوض، وكل من يقول رأياً معارضاً قد يصبح خائناً.
نتخبط في الفكر، ولا مجال لاستخدام العقل، ونلعن العولمة، ونعيش في ظلها، فهنيئاً لنا لأننا ننعم بالجهل، فقد صدق قول الشاعر فينا:
ذو العلم يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
بقلم الدكتور تركي بني خالد
التخلف صناعة، وربما أحد علوم العصر الذي تميزنا به بحق؛ فنحن أمة تفوقنا في كل علم وفن، ومن أبرز هذه الفنون: فن التخلف. نحن أميون، وربما نفاخر العالم بذلك. إننا نصنع الأمية وننتجها، ولربما نصدرها إلى أطراف العالم من حولنا.
التخلف عملة وطنية نحن من صنعها من أجل أن يتعامل بها الجميع، وهي العملة الوحيدة في العالم التي لها وجه واحد فقط، مرسوم عليه الجهل. نحن الوحيدون بين الأمم الذين نحارب الجهل بمزيد من الجهل.
ونحن من دون العالم نفاخر بأننا أمة "اقرأ" في حين ناصبنا القراءة كل العداء، وجعلنا من القراءة والكتب أعداء لنا منذ زمن بعيد. ونحن من بين كل الخلق الذين جعلنا شعار المرحلة- مع الاعتذار للشاعر عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فنحن إذن من خلد الجاهلية مهما كان قصد الشاعر من كلمة جهل بريئاً وإيجابياً. لدينا جاهلية قديمة وجاهلية معاصرة ذات أصول ويتم تدريسها في مدارسنا وجامعاتنا، ونتداولها في تعاملنا اليوم.
نحن نجهل ونتجاهل في كل شيء. لدينا مئات الفضائيات التي لا حصر لها تبث في ثنايانا مختلف صنوف الجهل والتخلف، وتسلب أوقاتنا وربما عقولنا- إن بقي لدينا شيء منها.
نتكلم كثيراً وجعلنا من القول فنوناً، ومن البلاغة صناعة، ومن السجع طريقة، ونمارس الكسل بكافة أنواعه التي من أهمها الكسل الفكري، فالدماغ في إجازة منذ قرون خلت، بانتظار صدمه كهربائية علها تبعثه من سباته العميق.
نمارس الكره.. وأحيانا الحقد ونرغب في الحرب, ونتبارى في الجهل والأمية. نمضي الساعات نبحلق في الشاشة الصغيرة وربما الكبيرة بحثاً عن شيء، ولا نجده. نضع الأطباق فوق سطوح بيوتنا، ونقلب المحطات وننام، ثم نصحو من أجل أن ننام من جديد.
نلقي مسؤولية كل مشاكلنا على الآخرين، على الاستعمار، وعلى القضاء والقدر، ونغمس رؤوسنا في الرمال. نشتم الآخرين وندعو عليهم بكل أصناف الدعاء، ونقنع أنفسنا أننا ما زلنا في مقدمة الأمم.
لا علاقة لنا بالإنتاج، ولا رغبة لنا في التطور، بل إننا قد نحارب من يقدم لنا فكرة قد تقود إلى تطورنا. نصدق كل شيء، ونؤمن بالخرافة، ونقدس الأسطورة، ونفرح بنشر الإشاعة.
عاطلون عن العمل، وصنعنا من البطالة مهنة. بل إننا نعيب على غيرنا حين يعمل.
لا نقرأ التاريخ، ونكره درس التاريخ في المدرسة، ونتثاءب كثيراً، ولا ندري ماذا نصنع بالمعلومات التي يضخونها في رؤوسنا وعلى مسامعنا ليل نهار.
نفاخر بأمجاد الماضي، ونزعم أن الأندلس كانت لنا، ولا نملك حاضراً مشرفاً نتحدث عنه. كل الأمم لها حاضر، ونحن ليس لنا إلا الماضي نتغنى به.
نفاخر بخرافات الزير سالم ونباهي برجولة عنترة العبسي، ونذكر في مجالسنا كرم حاتم الطائي الأسطوري، ونسمي أولادنا وبناتنا أسماء ونخلد أولئك الذين أورثونا الجهل والتهور وربما الغباء.
نسخر من الآخرين، ولا يعجبنا العجب، ونظن أننا لا غالب لنا. ونمجد مفهوم الذات لدينا، ونعطي أنفسنا كل الحق أن نصنف العالم وكل من حولنا ونلصق بهم نعوتاً وألوناً بعدد ألوان قوس قزح.
نحن جاهلون رغم كثرة مدارسنا، وجاهلون رغم انتشار جامعاتنا، فليس من بينها جامعة واحدة استحقت أن تكون من بين أفضل خمسمائة جامعة في العالم الحديث، وجاهلون رغم أن كثيراً منا يحمل درجة الدكتوراه أو في طريقه إليها.
نمارس الشعوذة، ويذهب حتى المتعلمون إلى مشعوذي الطب. يضربون المرضى بحجة إخراج الجن من أجسادهم، ولا نؤمن بالطب النفسي ولا بقدرات العيادات النفسية، أليس هذا هو الجهل بعينه؟
وفي زمن الانفجار المعرفي الهائل، تتفجر لدينا مواهب تفسير الأحلام، والمعالجة من خلال الشعوذة، وكل ما هو بعيد عن العقل.
نجهل بتفوق، ونتخلف بجدارة، نصدق كل شيء، ولا ندقق في شيء، ننعم بالجهل ونتلذذ بحلاوته، ويقتلنا الكبرياء.. لا نقبل الاختلاف في الرأي، ونعلن الحرب ببساطة، فهذه الواحة لنا دوماً وأبداً، وخلال لحظات، ودون نقاش تمتد أيدينا إلى سيوفنا، ونعتلي ظهور خيولنا، فلا مجال لتفاوض، وكل من يقول رأياً معارضاً قد يصبح خائناً.
نتخبط في الفكر، ولا مجال لاستخدام العقل، ونلعن العولمة، ونعيش في ظلها، فهنيئاً لنا لأننا ننعم بالجهل، فقد صدق قول الشاعر فينا:
ذو العلم يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.