صِناعةُ الحياة في غزة
في تقرير عن حفلٍ لزواج الجماعي في غزّة كتبته إحدى الصحفيات لصحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية الأحد الثاني من نوفمبر الجاري، تُغطي الصحيفة فيه حشد الإمكانيات المحدودة، والتضامن الاجتماعي المقاوم للحصار لإنجاز حفل الزواج الجماعي الذي نظمته حكومة حماس في غزة، لسيدات أرامل وهُنّ صغيرات السن -لاستشهاد أزواجهن في عمر مبكر- وأُخريات لم تُتح لهن فرص الزواج، فتم عقد قرانهن من شباب غالبيتهم من مقاومي حركة المقاومة الإسلامية حماس، وهم جميعاً من الشباب العزاب، وفي الأحاديث التي نقلها التقرير تقرأ لغة الألم والأمل معاً، ولكنها جميعا تُعطيك معنى إصرار شعب غزة على إرادة الحياة وصِناعتِها.
وإضافةً إلى أنّ الحفل كان من تنظيم حكومة إسماعيل هنيّة، فقد دُعم بتبرع من أقطاب الحركة المُحاصرة كالدكتور محمود الزهار وأبو العبد وبعض الجهات الخيرية في غزة، والناقل لنا هنا هو صحيفة (الشرق الأوسط) المعروفة بسجلها المناهض لكل حراك تحرري أو انتماء إسلامي، ولكن لعلها خطوة رشد يعقبها خطوات، ويفتح على أهلها بالمهنية الإعلامية في تناولهم لقضايا الأمة.
ذلك التجمع الإنساني المغدور في أروقة العالم ومؤسساته الدولية، بدعم يُشاهد على مدار الساعة من مؤسسة الحرب والإرهاب في تل أبيب، وحشد من قوى الدعم للعدوان تقودها واشنطن، كان يحاصر أيضاً بحدود وقوانين عربية، سواء كان ذلك مباشرةً في مصر أو غير مباشر في عواصم أخرى، لكن ذلك الإنسان المغدور لم يستسلم لقوى الموت والشر؛ فهو لا يزال يُطلق مبادرات المقاومة لأجل الحياة والكرامة الإنسانية، وهي قضية لم تتحقق لكثير من الشعوب إلاّ بالإرادة والفداء، فما بالك بشعب اجتمعت قوى الشر في العالم على قهره، والغالبية الصامتة تشهد تكبيله بالحديد والنار، بل والبعض يُصفق أو يَهذي؟!
لكن فلسفة التحدّي تنطلق من هنا؛ فبقدر ما يتحمل المقصرون رسمياً أو أهلياً من القادرين على البذل لأجل الحياة في غزة مسؤولية المشاركة للقوى الكبرى المُحاصِرة عربياً ودولياً، فإن مشروع غزّة لهزيمة الحصار لا يتوقف، وفي مشاهد متتالية تبدأ من روح الصبية المتضامنين في حلقات احتجاج متعاقبة ومتنوعة لفن إدارة صراع الرفض الإنساني، ولو من خلال توسيع لغة الضجيج على شركاء الجريمة، حتى لا يهدأ لهم بال في مواصلة إرهابهم، ويتحقق للصبية كبار الأرواح في غزّة تفكك في جدار الصمت والغدر العربي.
أو كان ذلك في البرامج المُتعددة التي تُديرها اللجنة الشعبية لمقاومة الحصار مع أولئك الأطفال أو النساء و قطاعات المجتمع المدني الغزّي، وهي صورة حيّة لا يمكن أن تجد لها نظيراً في إرادة النصر مهما بلغت قوةُ الإرهاب.
هذه الروح المُعطاة المُتفاعلة المُصرة على قضيتها، حرّكت قوى الخير والوحدة الإنسانية الراشدة في الغرب مع نماذج يقظة الروح مُشرقة الأمل حاملة للهم من عرب المهجر، فاجتمع أولئك الأخيار في مبادرات إنسانية صنعتها رؤيتهم لمشروع الحياة في غزة، ثُمّ تجسدت في تنظيم حروب إسقاط الحصار الصغيرة والتي تجتمع في تواتر، وهي بلا شك تكبر في عطائها وثمرتها ويكبر عندها خرق جدار الحصار، والذي أصبحت سفن الحرية من لارنكا عنوانها الكبير.
همة عالية وروح أكثر من مسؤولة حركّت بحار غزة وهيّجت أمواجه، ووصلت إلى ساحله، فالتحمت مع الشعب، والتحم الشعب معها، وكان مشهد أبو العبد وهو يصافحهم ويحييهم وهو في الساحل أو في عمق البحر وبيده علم فلسطين، يُغني عن ألف خطاب وهمهمة، ولكن الغريب أنّ هذا الحراك لم يأت بالموجِ العربي فأين هو؟!
ولماذا تأخر؟ وماذا ينتظر؟ ولكن لابد من أن نُشير إلى الفجر الأول من حركة التضامن المصرية المستقلة لقافلة إغاثة غزة، ومع أنّ النظام الرسمي في مصر قد أوقفها وحاصرها إلاّ أنّها فتحت الباب، ومن أدام الطّرْق أتاه الجواب، ولكن ماذا عن البقية في أرجاء الوطن العربي؟ أين كفاح التيار الإسلامي والقومي والمستقل في مجتمعه المدني؟ لا أريد هنا أن أجلد الذات، ولكنني أُذكّر بأن خطوة من هنا ومبادرة من هناك ستصنع النصر في إسقاط الحصار، ولو كان هناك أحدٌ يجوز له أن يُثنيه الإحباط لكان شعب غزة، فما بالك بأنه هو من يبعث الروح في الآخرين لكي ينطلقوا متحدين من كل صوب وجهة، والمقصد غزّة هاشم لأجل القُدس الكُبرى.
المتطوعون لحصار الضفة
شيء غريب! في نفس الوقت الذي تُخنق فيه غزة وتزامناً مع التمهيد للحوار الذي ترعاه مصر وهكذا بلا مقدمات، تم تسليم مواقع حيوية في الخليل وبإعلان رسمي من قوات الاحتلال الصهيوني وقيادات رام الله الأمنية، عن مهمة مزدوجة تنفذها القوات التابعة لرام الله لأهداف معلنة في الضفة، ولنلاحظ أن القرار جاء بعد أن عجزت حكومات تل أبيب المتعاقبة من السيطرة أو الحد من فاعلية المقاومة، فأُوكل الأمر إلى فريق من فتح مد يديه واستلم السلاح لقتل إخوانه في الضفة بتهمة المقاومة، ثم خرج لنا في الإعلام يحدثنا عن الوحدة الوطنية وضرورة تسليم غزة لهم فمن هم المُتسلمون؟
المتعاون المختنق
ومع كل ذلك فالمراقب الراصد يشعر بأن هذا الفريق من فتح الشريك للعملية الأمنية الإسرائيلية يختنق ويزداد عليه التشديد، وهذا واضح من التوتر الدائم للمتحدثين، والتعنيف المُتبادل المستمر بين الإسرائيليين في خيبتهم في المراهنة على أحصنة خاسرة، ولذا فلا بد من إنهاء الوضع القائم في غزة ليس لسيطرة حماس فقط كلا!..
ولكن لأنّ المشروع الإسرائيلي في تصفية القضية أصبح ينهار بالفعل في الرصد التحليلي المهني، وأصبح المشروع الفلسطيني التحرري يعود بقوة، وهذا يُضاعف الإزعاج لكل برنامج النظام الرسمي العربي والدوائر الأمريكية التي راهنت على كسب المعركة لمصلحة تل أبيب، ولذا فالأمر- وهذا ما تنقله لنا الصورة الواضحة- ليس وحدة وطنية فلسطينية، فطريق الوحدة واضح بين من يُطلق السجناء المتهمين في غزة وبين من يسجن الطلقاء المقاومين، ولكنه مشروع آخر لن يستطيع النظام الرسمي العربي أن يفرضه على الشعب؛ لأنّ الشعب قرر الحياة بمعناها الكبير، ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، لكن السؤال الذي سأله الزهار في حفل الزواج لقوى الدعم العربي الإسلامية الأصيلة: هل تخليتم عن المُهمة؟ وهي تقول ضمنياً: وهل انطلت عليكم المؤامرة على حماس وعلى شعب غزة وتشويه صورتها؟ لأنها حماس وتلك هي فلسطين، وحينما علموا أنها الطريق أرادوا أن يقطعوه حينما يقطعون بينكم وبينها، فهل هناك غيرها من طريق؟ فها هي ذا الراية تُرفع من جديد لهويتها:لا إقليمية ولا دولية.هو محوركم محور الأمة العربية الإسلامية، فمتى تتقدمون لها؟